من حق السعودية اليوم أن تشعر بالقلق، بعد أن أصبح النفوذ ال​إيران​ي على أبوابها، لكن عليها أن تبحث أولاً عن الأسباب التي أوصلتها إلى هذا المأزق، قبل أن تقرر الإستمرار في السياسات نفسها أو الذهاب نحو تعديلها، فهي التي ستدفع دون غيرها الثمن الباهظ، إذا ما إستمر الواقع على ما هو عليه، فالولايات المتحدة الأميركية أصبحت في مكان آخر بعيد نسبياً عنها.

على مدى السنوات الطويلة السابقة، التي قررت فيها الرياض إعتماد سياسة الابتعاد عن طهران (وصل الى حدّ العداء)، كانت الأخيرة تسعى في كل مرة إلى تأكيد رغبتها في الحوار معها، خصوصاً أن الذهاب نحو مواجهة مذهبية لن يكون مفيداً لها، لكن ماذا فعلت السعودية في المقابل؟

تنامي النفوذ الإيراني في المنطقة

من وجهة نظر مصادر مطلعة، من الضروري العودة إلى أساس المشكلة بين الجانبين، يوم قيام الثورة الإسلامية في إيران بقيادة السيد روح الله الخميني، حيث شعرت الدول الخليجية، وعلى رأسها السعودية، أن الخطر على وجودها يأتي من طهران، وكانت نظرية "تصدير الثورة" هي الطاغية، دون أن تبحث عن أسس جديدة تعطي الشرعية لأنظمة حكمها، على الأقل من خلال الإنفتاح على شعوبها أكثر، الأمر الذي أوصلها إلى دعم بعض الحركات المتطرفة، التي تنمو على أساس العداء المذهبي، بغية توجيه الرسائل الدموية في أكثر من ساحة.

منذ ذلك الوقت، يجري العمل على تعزيز "الإيرانوفوبيا" في المنطقة، بالرغم من سعي إيران إلى رفع شعارات "الحرية والعدالة ودعم القضايا المحقة في العالم"، وأهمها دعم القضية الفلسطينية، من خلال تقديم مختلف أنواع المساعدات إلى الفصائل الإسلامية والوطنية المقاتلة على أرض الواقع، بالإضافة إلى دعم حزب الله.

بالنسبة إلى هذه المصادر، كان لدى الرياض كل الإمكانيات لتقوم بهذا الدور، فهي تملك الموارد النفطية التي تجني من خلالها أموالاً طائلة، لا بل لديها أيضاً كل العوامل المساعدة كونها مركزاً إسلامياً مهماً، إلا أن القيادة السعودية إختارت الذهاب نحو خيار آخر، يتمثل بربط مصالحها الوجودية أكثر بالعلاقة مع الدولة الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، متجاهلة أن التجارب التاريخية تثبت أن الأخيرة تعتمد في سياستها الخارجية على "البراغماتية"، التي تعني تأمين مصالحها قبل أي شيء آخر، وهي فعلاً لم تكن ترى في الدول الخليجية مجتمعة إلا مجموعة من آبار النفط والغاز.

تاريخياً، لم تكن الولايات المتحدة بعيدة عن الدول الخليجية، لا بل هناك تحالف إستراتيجي بين الجانبين، يعود إلى أيام الحرب العالمية الثانية، أي قبل ذلك بسنوات طويلة، والأسس التي قامت عليها هذه العلاقة، كانت تقوم على تأمين الدول الخليجية إستمرار تدفق النفط بأسعار مقبولة مقابل تأمين الحماية لها، لكن يمكن القول أنه منذ أحداث الحادي عشر من أيلول تبدلت بعض الأمور على نحو كبير، خصوصاً مع إرتفاع أصوات في واشنطن تحمل السعودية المسؤولية عنها، والجميع يذكر حينها التوتر الذي طبع العلاقة بين الجانبين قبل أن تعود الأمور إلى طبيعتها لاحقاً.

وبعيداً عن نظرية المؤامرة، لم تكن الدول الخليجية مرتاحة إلى ما اصطلح على تسميته بـ"الربيع العربي"، لا سيما في كل من تونس ومصر، خصوصاً أن النسخة الأولى أدت إلى بروز نجم تنظيم "الإخوان المسلمين" في أكثر من ساحة، الأمر الذي يشكل خطراً عليها، والذي يفسر إلى حد بعيد لماذا تحول هذا التنظيم، الذي لم يقرأ بدوره الأمور جيداً، إلى منظمة "إرهابية" في أغلب الدول الخليجية، حيث كان الخوف من إنتقال شرارة الثورات إلى دول منظمة التعاون، لا سيما مع بدء توتر الأوضاع في البحرين، التي عمدت الرياض إلى إرسال قواتها إليها من أجل الحفاظ على الملك حمد بن خليفة، وفي اليمن التي سارعت إلى محاولة معالجة أزمتها سلمياً عبر المبادرة الخليجية التي نحت علي عبدالله صالح جانباً وأوصلت عبد ربه منصور هادي إلى السلطة.

إذا، يمكن القول أن العلاقة بين واشنطن والرياض مرت بالعديد من المطبات الخطرة، منذ أحداث الحادي عشر من أيلول، وبين الرياض وطهران لم تكن منذ ولادة الثورة الإيرانية على أحسن حال، بسبب الخوف من تصديرها، لكن المشكلة الأساسية التي تعاني منها السعودية هي في تنامي العلاقة بين واشنطن وطهران، بين الحليفة الإستراتيجية والعدوّة الأساس، والتي أدت إلى تغاضي الولايات المتحدة عن إتساع النفوذ الإيراني في أكثر من ساحة، سوريا والعراق واليمن، خصوصاً أنه يضع محاربة التنظيمات الإرهابية في سلم أولوياته، ويمكن الإشارة إلى رفع إسم طهران و"حزب الله" من التقرير الذي يقدّم سنوياً إلى الكونغرس عن الدول والمنظمات التي تصنف "إرهابية" للدلالة على ذلك.

ماذا يحصل اليوم؟

في الولايات المتحدة هناك فريق يتنامى يوماً بعد آخر، يرى أن ليس هناك من بديل عن التفاوض مع إيران من أجل منعها من الحصول على القنبلة الذرية، وهناك سعي حثيث من قبل الرئيس الأميركي باراك أوباما وفريق عمله إلى الإنتهاء من هذه المعضلة، حتى لو تم تأجيل التوقيع على الإتفاق من جديد، نظراً إلى أن أوباما يحتاج إلى الإعلان عن إنجاز من هذا النوع قبل إنهاء ولايته، بعد أن قطع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو طريق المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية أمامه.

من حيث المبدأ، ستكون الدول الخليجية، خصوصاً السعودية، هي المتضرر الأساس من ذلك، هذا ما تؤكد عليه المصادر المطلعة، لـ"النشرة"، حتى إسرائيل رغم معارضة نتانياهو ستعمد إلى ركوب الموجة، أو على الأقل ستسمح لها ظروفها بالإنتظار حتى خروج الرئيس الأميركي الحالي من السلطة، لكن الخطر الأكبر سيكون على الرياض بعد تعاظم النفوذ الإيراني ووصوله إلى حدودها، بعد سيطرة جماعة "أنصار الله" المقربة من طهران على معظم المحافظات اليمنية، وهي لم تعد تلك المنظمة التي حاربتها الرياض قبل سنوات قليلة، لأن خبراتها العسكرية ونفوذها السياسي أصبحت أكبر مما كانت عليه.

في الساحات الأخرى، يمكن القول أن النفوذ الإيراني أيضاً تنامى بشكل لافت في كل من العراق وسوريا ولبنان، في حين تراجع النفوذ السعودي كثيراً، أي أن الرياض خسرت المعركة التي تخوضها منذ سنوات طويلة للإبقاء على موقعها في المنطقة بسبب ميل حليفتها الإستراتجية إلى التفاهم مع طهران.

الخيارات المتاحة؟

عملياً، أفق الخيارات المتاحة أمام الدول الخليجية ضيق جداً، وقد يكون الذهاب نحو التكامل مع الرغبة الأميركية الجديدة، والإقتناع بقبول الدور الإيراني في المنطقة هو الأرجح، فالرهان على الدول الأوروبية، التي سعت إلى تحسين علاقاتها معها عن طريق صفقات السلاح، لن يستطيع أن يقدم لها أكثر من ضغوط لتحسين شروط التفاوض مع إيران، فهي حكماً لا تستطيع أن تفرمل إتفاقاً تريد الولايات المتحدة توقيعه، إلا أن ذلك لا يعني أن الرياض لن تسعى إلى الدفاع عن نفوذها، وربما تذهب بعيداً في هذا المجال، إلا أن ذلك سيؤدي حتماً إلى مراكمتها المزيد من الهزائم.

في المحصلة، ترى المصادر المطلعة أن المنطقة قد تشهد حتى الموعد النهائي المحدد لتوقيع الإتفاق بين إيران ودول 5+1 مزيداً من التصعيد في أكثر من مكان، خصوصاً في اليمن، لكن في نهاية المطاف ستكون جميع الجهات مضطرة إلى الجلوس حول الطاولة نفسها.