كما تشريع الضرورة الجاري تداوله هذه الأيام، هكذا هي دولة الضرورة الجاري تداولها منذ 1920! تشريع الضرورة في دولة الضرورة... وفي الحالتين، إنتاجية تشبه إنجازاتنا في تخصيب الأورانيوم! كأنّما التأجيل هو رياضتنا الوطنية. نركض ماراتونيًّا من أزمة إلى أخرى، فنطفئ محرّكات المجالس على أنواعها لتقتصر على الحدّ الأدنى وما دون. وبذلك، يبدو تشريع الضرورة غير مستجدّ على مجلس يقتصد في التشريع ويتقشّف في القوانين. هو ينسجم تماماً مع "سياسة" دولة برمّتها ترى في إصدار الموازنة وقطع الحساب ترفاً وبذخاً، فتؤجّله على مدى عقد من الزمن، وترى أيضاً في الانتخابات العامة هدراً، فتؤجّلها لدورة نيابية كاملة (وربما أكثر، لا ندري). دولة تؤجّل اختيار رئيسها لأن للضرورة أحكامها، لا حكّامها. دولة وحكومات امتهنت تصريف الأعمال منذ 1943 مع استثناءات "نوستالجية" عابرة... في المختصر، هي دولة مؤجّلة منذ إعلانها وبتعابير مختلفة، فلما استغراب تشريع الضرورة في دولة الضرورة؟!

ودولة الضرورة هذه هي أيضاً دولة "مضرورة" (كما نقول في العامية): مصابة بحرارةٍ مرتفعةٍ على الحدود وإسهالٍ حادٍّ في كلام "المسؤولين". مصابة بداء مفاصل إدارتها وتشنّج أعصاب قادتها. مصابة بمرض انفصام شخصيتها الوطنية وبِبارانويا مزمنة بين مكوّناتها المختلفة. مصابة بمرض عضال في بنيتها التكوينية و"تقع في النقطة" عند كلّ منعطف. مصابة بسرطان الرئة لكثرة ما تنشّقت فساداً وبشحّ النظر الذي لم تعد معه ترى أبعد من أنفها. مصابة بقرحة مزمنة جرّاء أكل الهواء الملوث وبنفخة مَرَضيّة هنا وسوء تغذية هناك. مصابة بأزمة في القلب اللبناني الذي تعاني شرايينه إلى الأطراف "نشافاً"، فيما عملية اللامركزية "المفتوحة"... موعودة. مصابة بشلل دماغي في رأسها و"الكوما" رئاسية... جسمٌ مريض يحتاج إلى عمليات جراحية وإذا بعقله (المريض هو الآخر) يكتفي بأقراص باتت لا تداوي وجع الرأس غير المنقطع. في دولة "مضرورة" كهذه الدولة، الفاقدة مناعتها، لا تعود دولة الضرورة تكفي. تبرز الحاجة اليوم، وبإلحاح، إلى ضرورة الدولة. ضرورة أن ننتقل من حدّها الأدنى إلى حدّ سيفها القاطع. ضرورة الدولة، لأننا رأينا ما دونها ولأننا اختبرنا دويلاتنا ولأننا سقطنا في تجربة "قبائلنا". ضرورة الدولة لأنها وحدها قادرة أن تجمع الأضداد وتنظّم الاختلاف وتُعطي الحقّ لصاحبه لا لأصحاب المناصب والألقاب. دولة تأخّرت لكنّ "الانتظار خلق المحطة وشوق السفر جاب التران". ربما كان الأخوان رحباني على حقّ. ستأتي يوماً...

دولة الضرورة وتشريعها يذكّران بما كتبه مونتسكيو في روح الشرائع: "جوستينيانوس كان أًمَرَ بأنه يمكن تفريق الزوج دون أن تخسر الزوجة مهرها، إذا هو لم يستطع، خلال سنتين، أن يحقّق واجب الزوجية، فغيّر القانون وأعطى ثلاث سنوات لهذا المسكين". ويعلّق مونتسكيو هازئاً: "ولكن في حالة كهذه، سنتان تساويان ثلاثاً، وثلاث سنوات لا تساوي أكثر من اثنتين"! هكذا هو تشريع الضرورة وهكذا هي دولة الضرورة وهكذا هي... أحكامها.