أقسم الرئيس فؤاد السنيورة على قول كلّ شيء... فقال كلّ شيء حتى الذي لا يُقال. وفيما كان يعتلي منبر العدالة في لايدسندام، كان بعضُ أبناء “مستقبل-الحريري” يصلّون في قرارة أنفسهم ألا يسمع الجيل “المستقبلي” الصاعد ما يتفوّه به رئيس الكتلة عن الرئيس الشهيد. خاف بعض هؤلاء بصمت على صورة الرفيق. خافوا أن يكلّف القسم استنزافًا كثيرًا لما كان يجسّده الرجل من سلطةٍ لا تسلّط. ومع ذلك لم تبدُ عليه علاماتُ ضعف الشخصيّة وهو الذي كان بثروته قادرًا على هزّ أعراش وكراسٍ.

لن تتبدّل صورة الشهيد في عيون محبّيه الذين ينتظرون بشوقٍ كلمة العدالة، ولكن بعض العتب لا يضرّ. فصورة الرئيس المتماسكة تهتزّ ولا تقع في نظر هؤلاء، وبعض “الزلات” من أبناء البيت الواحد توجع ولا تميت. حتى كتابة هذه السطور، كان معظم المنتمين الى التيار الأزق قادةً وساسةً وجمهورًا يحاولون إقناع أنفسهم وبعضهم بأن الرئيس فؤاد السنيورة إنما قال ما قاله خدمةً للعدالة وتمهيدًا لظهورها وإدانة المتّهمين الخمسة المنسوبين الى حزب الله. لم يكن هؤلاء ليكتفوا بمثل هذا السيناريو الفرضي القائم على مقولة إن “السنيورة سيزلزل الدنيا وإن شهادته ستكون خاتمة الشهادات إذ ستحمل الكثير من القنابل والمفاجآت الكفيلة بالحسم”. لم يكن الانتظار حتى الساعة على قدر الثمار المأمولة، فحكمًا لن يرضى هؤلاء بأن تكون المفاجأة التي مُهِّد لها حتى قبل توجّه السنيورة الى صرح المحكمة أخبارًا وحكايا وخواطر من قبيل البكاء على المنكبين والبهدلة والإذلال والصفع.

معذور ومفهوم...

تؤكد مصادر في 8 آذار مواكبة لشهادة السنيورة عبر “​صدى البلد​” أنه “معذورٌ ومفهومٌ في ما قاله وما سيقوله، إذ إن وصوله الى خدمة مشروعه السياسي باتهام النظام السوري يبدأ بمثل هذا الكلام العاطفي. وحينما يطغى الهدف السياسي على ما عداه، يغدو كلُّ الكلام مباحًا حتى لو حمل إهانة للرئيس الشهيد. فليدعوه يرتاح حيثما هو”. ولفتت المصادر الى أن “شهادة السنيورة تحمل الكثير من التضارب عدا تشويه الصورة التي عهدها محبّو الرئيس الشهيد عنه، فتارةً يتهم حزب الله بشكل غير مباشر وطورًا يُبعِد عنه التهمة تاركًا التحقيق يأخذ مجراه”.

تشكيك في متانة العلاقة

ليس الرئيس فؤاد السنيورة ابن الأمس أو اليوم. وإن كان كثيرون يشكّكون في متانة العلاقة التي كانت تربطه بالرئيس رفيق الحريري بذريعة انه لم يكن محطّ ثقته حدّ القول إن شهادته فاصلة أو إنه سيفجّر مفاجأة ما، تبقى حقيقة أن ما يعرفه الرجل من خلال معاشرته الحريري حتى ولو عن بعد يكفي ليضيف الى سجلات المحكمة ما يمكن أن يساعدها في بناء حكمها الأخير. وربّما ما يُغفله بعض الهازئين بشهادة السنيورة ومقزّميها وهي الأحجية الأقوى التي يتمسّك بها أبناء معسكر 14 آذار ومن لفّ لفّهم يتجسّد في واقع أن السنيورة سبق وقال ما شهد به في التحقيقات الأولية وكلّ شيءٍ مدوّن ومحسوب على صاحبه، وبالتالي لا يمكن لرئيس الكتلة أن يناقض في الملأ ما قاله ذات يومٍ في غرفةٍ مغلقة، وإلا سيكون في دائرة الشكّ والاتهام بالكذب والتلفيق وتضييع التحقيق. بناءً عليه، كان السنيورة مضطرًا لتكرار ما أدلى به في التحقيقات كي لا يحشره محامو الدفاع ويحملوا عليه.

صيغ الردّ المنمّقة

أبعد من ذلك، ضجر أبناء بيت الوسط أغلب الظن من إيجاد الصيغ المنمّقة للردّ على كلّ من يدفعه إما حرصُه وإما عدائيتُه الى التساؤل: ألم يكسر السنيورة عظمة صورة الرئيس الشهيد؟ يكابر المجيبون. فإن كانوا غير مقتنعين بكسر الصورة بل العكس تشفّوا مما أفصح عنه السنيورة إنسانية الراحل وأحبوه أكثر، وإن كانوا مقتنعين بهذه النظرية أحدٌ لا ينتظر منهم ان يعترفوا بما في دواخلهم من حزن وعتب. في كلتا الحالتين ترافقهم عوارض المكابرة: فمن جهةٍ لا يمكن خدش الصورة التي صنعوها عن بطل الثورة والأبطال عادةً لا يُهانون ويُذلّون ويُبهدلون ويصمتون، ومن جهةٍ أخرى لا يمكنهم مهاجمة رئيس الكتلة ركونًا الى سببين: أولاً، واجبهم في توفير الحدّ الأدنى من التماسك الذي ما هو إلاّ “طمطمة” محرجة في هذه الحالة، وثانيًا، تفهّمهم لموقف السنيورة “القانوني” والذي يمكن لأيّ تناقضٍ من قبيل التعتيم على ما قاله في التحقيق أن يورّطه ويُضعِف عمل الشهود. ولكن ما هم واثقون منه بالإجماع أن “السنيورة يقول الحقيقة وأنه رجل منهجي، وأن هجوم 8 آذار الشرس على شهادته إنما لثقتهم بأن شهادة السنيورة هي الوازنة أكثر من سواها”.

تسويغ «مستقبلي»

تؤكد مصادر «المستقبل» لـ”صدى البلد” أن “هذا النقاش لا يفارق بيت الوسط بين أبنائه وأشخاص من خصوم التيار بما نعرف عنهم من مواقف غير مؤيّدة لتيار المستقبل في السابق، وكان لديهم طرحٌ قائلٌ بأن أقوال الرئيس السنيورة يمكن أن تطاول الصورة التي رسمها بعضهم عن عظمة الرئيس رفيق الحريري وكبريائه وهم محقّون في ذلك. نحن نقارب الموضوع من باب أن هذا الرجل الكبير الذي أحبّ وطنه حتى الاستشهاد كان في حياته مستعدًا للاستشهاد مرات ومرات في سبيل هذا الوطن، وبالتالي هذه القناعة كانت تفرض عليه الترفّع عن بعض الإهانات التي كان يتعرّض لها كما قال السنيورة من أجل الوطن. وفي ذلك عظمة لا ضعف. بعضهم طرحها في إطار تعلّقه بالسلطة وحني رأسه من أجل البقاء في مركزه، ولكن خسئ الذي يقول إن الحريري كان يبكي ويُهان من أجل السلطة لا من أجل وطنه”. ولكن مع احترامنا للرئيس السنيورة وشأنه ودوره، الرئيس الحريري سينام على كتفه ويبكي أمامه ويُسرّ له بمثل هذا الكلام؟ تتلقف المصادر: “هذا ما قاله السنيورة ونحن واثقون من صدقيّته”.

كسر «الهالة»

ألم يكن يجب التحفّظ عن استخدام مثل هذه الكلمات التي تخدش “هالة” الرئيس الشهيد أقله من أجل الأجيال الجديدة التي تعشق الرجل لا من أجل الخصوم المصطادين في الماء العكر؟ تعلق المصادر: “هذا الجيل يجب أن يفهم من كلام السنيورة حجم الحبّ الذي كان يكنّه الرئيس الحريري لوطنه حدّ الاستشهاد من أجله”. ولكن في المقابل هذا الكلام يمكن أن يكون متعمّداً لخدمة مشروع اتهام سورية بالاغتيال، علمًا أن القرار الاتهامي واضح في وضع خمسة أشخاص ينسبهم الى حزب الله في دائرة الاتهام؟ تتلقف المصادر: “نحن مقتنعون أن النظام السوري له يدٌ في عملية الاغتيال بشكل أو بآخر، فما الجديد في قول السنيورة؟”.

وجعات رأس

لم يكن أمام السنيورة خياران. فالرجل قال ما لا يُحسَب عليه في التحقيق وإن حُسِب عليه أمام القاعدة. أحدٌ لا يعرف موقف ابن الشهيد، الرئيس سعد الحريري، الذي لا ينفكّ أبناء تياره يُحرجونه ويأتون له بوجعات رأس ونظريات شماتة من قبيل “بروز النهجين أكثر فأكثر داخل تياره”... أيًا يكن، لو شهد الرئيس سعد هل سيقول ما سبقه اليه السنيورة، أم أن أباه ما كان ينام على كتفه ويُسرّ له بما كان يُسرّه لرئيس الكتلة؟

الوزير الساخر لـ«البلد»: حسابي مسروق!

لم يُثِر كلام السنيورة ردود أفعال تضاهي تلك التي أثارتها التعليقات على كلامه من الخصوم والحلفاء. فأن يخرج أحدهم من معسكر 8 آذار هازئًا أمرٌ بديهي، لكن أن يفاجئ وزيرٌ سابقٌ موالٍ لتيار المستقبل جمهوره الفايسبوكي بتعليق ساخر فأمرٌ لا يمكن للمعدة “المستقبلية” أن تهضمه ولا للعقل “المستقبلي” أن يقبله. هذا السيناريو اقترب من أن يُوثَّق لو لم يخرج الوزير المعني، محمد رحال (وزير البيئة السابق) لينفي عبر “صدى البلد أن “يكون هو من سخر من السنيورة بعبارة: أطرق رأسه على كتفي وبكى مرفقة بوجوه ضاحكة وساخرة”. وأكد رحّال أن حسابه على الفايسبوك مسروقٌ منذ فترة من قبل الجيش السوري الإلكتروني الذي عمد سابقًا الى نشر صور الرئيس بشار الأسد على صفحته، قبل أن تعود جهةٌ أخرى وتسرقه لساعتين ثم تقفله ولكن ليس قبل أن تعلّق على الرئيس السنيورة ما قرأه الكثيرون وجعل منه قضيّة كبرى لا تحتمل هذه الضجّة. فالصيغة المستخدمة ولاّدية”. ولكن ماذا لو كانت الصفحة غير مسروقة وقرر رحّال أن يعلّق على كلام السنيورة ماذا سيقول؟ يتلافى رحّال الإجابة عن هذا السؤال مشيرًا الى أنه “لن يتبنى أيّ تعليق خصوصًا بعد البلبلة التي أثارها حسابُه المسروق والذي يعمل من معه على استعادته”.