تفرض أحداث اليمن نفسها على الواقع العربيّ، في مواجهة قد تبدو مباشرة بين السعوديّة و​إيران​، وتبلغ الحماوة القاسية في ظلّ قرار السعوديّة مدعومة بدول مجلس التعاون الخليجيّ وبعض الدول العربيّة، بمواجهة الزحف الحوثيّ باتجاه صنعاء، تحت مسمّى "عاصفة الحزم"، وليس من فهم إذا ما كان الحزم قد عنى الحسم، أي أننا أمام قرار بالحسم، وهل المظلّة الأميركيّة تظلّل "عاصفة الحزم" والتي قد تشي بقرار الحسم؟

يسوغ تسمية المنطقة كلّها بالإقليم المتفجّر والمتمزّق. لم تعد المسألة لا في اليمن ولا في سوريا أو العراق محصورة باختبار مواقع القوى بين السعوديّة وإيران، واستثمار هذا الاختبار في مختبر التفاوض الأميركيّ-الإيرانيّ. بل تتعدّى محدوديّة الاختبار إلى ساعة الاشتباك في مدى استراتيجيّ كلّ قوّة تسابق باتجاه كسب المواقع المتقدّمة في فرض الشروط من سياسيّة وأمنيّة واقتصاديّة وبخاصّة نفطيّة. فمن هذه الزاوية المعركة مفتوحة على احتمالات عديدة، يمثّل "باب المندب" منطقة الجذب الرئيسيّة للسيطرة على الخطّ الممتدّ من الخليج نحو المتوسط عبر قناة السويس في مصر. وهذا ما يفسّر بالتحديد الدخول المصريّ في معركة قد تحدث في البنية بعض الفجوات، لكون المصريين لا ينظرون إلى مصر كحالة مستتبعة بالنظام الخليجيّ بل كحالة تملك مفاتيح القيادة في العالم العربيّ، في ظلّ توسّع الحرب بعناوين وشعارات مختلفة.

ثمّة اختلاط في المفاهيم لا يمكن الحياد عن إرهاصاتها وتداعياتها بين الحرب على الإرهاب، وتاليًا، الحرب التي تقودها السعوديّة مع إيران على الأرض في اليمن. فمن التداعيات الواضحة، أنّ المنطقة عادت إلى المربّع المذهبيّ، ممّا يسمح بدوره من استفادة القوى التكفيريّة بجميع فروعها وتنظيماتها من عمليّة التوسّع للتموضع، دعمًا لما يحصل في اليمن وليبيا والعراق. وتتراكم الأسئلة كثيفة وكثيرة، من أرض المعركة، مستنبطة المفردات الناريّة، ومستدعية بعض الرؤى باتجاه لبنان على وجه التحديد، محاولة معرفة ما إذا كان هذا البلد الصغير قد دخل بعمق أرض الإقليم المتفجّر، أو أنّ التداعيات ستنهمر بغزارة فوق أرضه لتنهي مرحلة الاستقرار المترجم بالحوار بين "حزب الله" و"تيار المستقبل"، ويعود اللبنانيون إلى لحظات الاشتباك السياسيّ تمهيدًا لتفلّت أمني خطير؟ وتظهر التجارب بأنّ أرض لبنان تظلّ المستودع والمستوعب الممتصّ لأحداث المحيط، حتّى إذا ما تراكمت دفعة واحدة على أرضه، ينفجر المستودع من أحشائه، وتحترق الأرض حتى الترمّد العبثيّ.

تتكثّف أمام هذا المشهد المتفجّر الرؤى الصادرة من انكباب المراقبين العاكفين على التدقيق في مسرى الحرب المباشرة والحامية بين السعوديّة وإيران. القضيّة المطروحة للنقاش في هذا المسرى القائم على كليّة الاختلاط بين حربين، ما هي النتائج المرتقبة من معنى الحرب وفحواها ومضمونها، في الساحات المحترقة؟ هل إن جماعة "أنصار الله" أو ما يسمّى بالحوثيين في محتواهم الفقهيّ والسياسيّ يشبهون إلى حدّ بعيد تنظيم "داعش" أو "القاعدة" أو "جبهة النصرة" أو جماعة "بوكو حرام"؟ لا تجوز هنا المقاربة والمقارنة بين أدب يملك خصوصيّة الاعتدال ويحوي في أبعاده ثقافة قبول الآخر بما هو عليه، ويتوق لبناء دولة لا تتغلّب فيها الأنماط المذهبيّة على حساب أنماط أخرى، بل وكما رأى أحد الباحثين ثمّة سعي عند هؤلاء لبناء دولة قائمة على التنوّع وترنو إلى ديمقراطيّة يتشارك الجميع في تجذيرها وتثميرها على أرض اليمن. في حين أنّ تنظيم "داعش" وكلّ التنظيمات التكفيريّة تخوض حربًا عبثيّة بوجه كلّ مكوّنات المشرق العربيّ، وهي بحالتها الوضعيّة ليست حربًا عبثيّة فقط إنما وجوديّة وتكوينيّة وعبثيّة تشاء بثقلها إلغاء المقوّمات الحضاريّة لمعنى وجود المشرق العربيّ بآفاقه العديدة.

وفي السياق عينه، ينظر عدد كبير من المراقبين إلى دخول السعوديّة أرض المعركة، بتحليل لانعكاساتها ليس على أرض اليمن، بل على المملكة بحدّ ذاتها، في علاقة نظامها مع التهديدات الجديّة التي أطلقها الداعشيون غير مرّة باتجاه المملكة والنظام الملكيّ، أو باتجاه المجتمع عينه حين قام أحدهم بالطلب من كل المنضوين والمتعاطفين مع تنظيم داعش بقتل ذويهم وما شابه ذلك. أحد المراقبين قدّم تحليلاً حول محنى تحرّك السعوديّة وفحواها اندراجها في الحرب على أرض اليمن، ليخلص بأنّه دخول ينتمي بتحديده إلى السياق المذهبيّ المحض في مقابل سياق بدأ يتحدّد مذهبيًّا في مسراه الإيرانيّ. وبإسهاب، أكمل هذا المراقب تحليله معتبرًا بأن السعوديّة دخلت في المنطقة الحمراء المتلهبة من دون احتساب دقيق لانعكاسات هذا الدخول من البوابة اليمنيّة في الخصوصيّة السعوديّة ضمن الدائرة الداخليّة وبعد ذلك العربيّة والنفطيّة. وبكثير من الظنّ البعيد المدى، سأل هذا المراقب، عن الأرض البحرينيّة المترجرجة والمهتزّة بالعمق المذهبيّ بسبب ارتباط هذا العمق جوهريًّا ووجوديًّا بما يحصل في اليمن، والدولتان راسيتان على حدود المملكة... وقاده التحليل إلى أن انعكاس الحرب في اليمن غير بعيد إطلاقًا عن الساحة البحرينيّة القابلة للتحريك والتأجيج بالعمق المذهبيّ في أي لحظة ممكنة. ذلك أنّ السياق المذهبيّ متحرّك ومتفجرّ في كلّ المعابر المؤديّة من المشرق إلى الخليج أو العكس، والتي تحاول أن ترسو على مياه المتوّسط من كل الاتجاهات. وقد طرح سؤالاً جوهريًّا في خصوصيّة الصراع، كيف يمكن للسعوديّة التوفيق في حربها في اليمن على الحوثيين وبالتالي على الإيرانيين، وبين حربها على الإرهاب، وهي التي قد تلقّت تهديدًا واضحًا من تنظيم "داعش"؟

وبكثير من الهدوء المتبحّر في مضمون المشهد المتداعي، اعتبر هذا المراقب، وعلى عكس رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري أو النائب وليد جنبلاط، بأنّ السعوديّة أخطأت كثيرًا في عدم انتهاج حلّ سياسيّ في اليمن، وهي تاليًا تكرّر الخطأ عينه بالعمق السياسيّ في حربها على سوريا في محاولة لإسقاط النظام فيه. ذلك أنّ الحوار بين السعوديّة وإيران حول العناوين المتفجّرة في المنطقة ومنها العنوان اليمنيّ كان بإمكانه لو تمّ أن ينتج حلاًّ سياسيًّا متوازنًا. ويستذكر كلامًا كرّره المغفور له العلاّمة السيّد محمد حسين فضل الله قاله في المرحلة الأخيرة من الحرب اللبنانيّة بأن الحرب في لبنان بدويّة تمثلّت فيها كلّ سلبيات البداوة وليس فيها شيء من صفاء. المسألة الطاغية في هذا الصراع على أرض اليمن بأن السعوديين لا يبيحون خيارات هادئة في التفاعل مع الأحداث. فالحرب ليست بالتوصيف المعطى وفي اصطفاف متجدّد حاولت شخصية لبنانية تبيانه والتموضع في مضمونه، بين امتداد فارسيّ تقوده إيران وعروبة مفقودة تقود السعودية معركة استعادتها وترسيخها في ظلّ تمزّقها بالكامل. وبانتباه كامل يشير المراقب إلى أنّ المصلحة الاستراتيجيّة وبدقة لامتناهية تقتضي حوارًا سياسيًّا بنّاءً بين السعوديّة وإيران وليس حربًا أو صراعًا بينهما سواءً على أرض اليمن أو البحرين أو العراق أو سوريا... وينهي مداخلته بأن إسرائيل وتركيا تشاءان تلك الساحات مزروعة بالألغام أي ساحات متفجرة بكل العناوين والمعايير والمقاييس، فمن مصلحة العرب الضعفاء بكل ما تعنيه كلمة ضعف من معنى أن يدخلوا في حوار معمّق مع إيران وتحالف موضوعيّ بوجه داعش المزروعة عنوة لتمزيق هذا المدى، بدلاً من الاحتراب الذي يقود الجميع إلى جحيم لا قاع له.