الساعات تمر، والاستعراض السعودي مستمر على الشاشات بطولاتٍ وانتصارات. والغارات تقتل المزيد من المدنيين اليمنيين، وتدمّر بنى تحتية تخص الدولة والجيش. لكن مفعول الصدمة الأولى انتهى. والقوى المعنية مباشرة بالحرب داخل اليمن استوعبت، ليس موجة الغارات الأولى فقط، بل حتى تداعياتها السياسية داخل اليمن. حتى الرهان والعمل على استمالة علي عبد الله صالح، لا يبدو أنه سيحقق أي نتيجة تذكر. وحدهم جماعة «الإخوان المسلمين» يعودون إلى انتهازيتهم القاتلة، يحركون تظاهرات مرحّبة بالعدوان على بلدهم في بعض مناطق الجنوب، ويشاركهم الخيانة بعض مجانين الانفصال في جنوب اليمن، من الذين يتحدثون اليوم عن وعود قاطعة قدمتها لهم السعودية بإعلان الجنوب بلداً مستقلاً.

على الصعيد السياسي، يسعى السعوديون إلى فرض أمر واقع على جميع العرب. وبينما كان من المفترض أن يربطوا قرار العدوان على اليمن بصدور قرار عن القمة العربية بإنشاء قوة عسكرية مشتركة. أظهرت المعطيات، خلال الساعات الماضية، أنهم أظهروا خشية من اشتباك وضغوط تمنع تكليف هذه القوة بتولي مهمة عسكرية في اليمن، كذلك فإنهم يعتقدون أن الحرب نفسها ستفرض على حلفائهم من العرب والغربيين عدم تركهم وحدهم في الساحة. ومع ذلك، ما يجري على الأرض في اليمن، وما يتعلق بالاتصالات الجارية، أظهر أن استراتيجية من اتخذ قرار العدوان، ليست قائمة بشكل قوي. وبينما كان عنوان الحملات الإعلامية والسياسية لليوم الأول هو إطاحة الحوثيين وإعادة عبد ربه منصور هادي إلى القصر الرئاسي في صنعاء، تراجع المتحدثون باسم قوى العدوان خطوة إلى الخلف أمس، وأوكل إلى هادي وجماعته رفع شعار: إن الحرب هدفها إجبار الحوثيين على الذهاب إلى طاولة الحوار.

ولتوضيح الصورة، لنفصل بين ما يجري على الأرض وما قد يحصل خلال الساعات المقبلة، وبين برنامج عمل قوى العدوان.

في الجانب الأول، تواصلت خطوات «أنصار الله» والجيش اليمني في تثبيت نقاط السيطرة جنوباً ووسطاً، وارتفعت حالة الجاهزية العسكرية إلى مستويات عالية، بما في ذلك الجاهزية التي تخص مواجهة أي غزو بري، أو حتى الاضطرار إلى القيام بعمل هجومي وقائي على الأرض. علماً بأن قرار بدء الرد المباشر على العدوان، سيظل أسير الأجوبة المنتظرة من الطرف الآخر، وهي أجوبة عن سؤال واحد: أوقفوا العدوان فوراً، وتعالوا إلى المفاوضات.

وبحسب المعطيات الواردة من صنعاء، فإن «أنصار الله» وضعت جميع الحلفاء داخل اليمن وخارجه في أجواء قرارها التصدي المباشر للعدوان، وإنها لن تقدر على التحمل أكثر، وإن الفترة الزمنية التي ستتاح لقوى العدوان لوقفه والتراجع تضيق سريعاً. وانشغلت الحركة الحوثية في ترتيبات لوجستية وسياسية وميدانية، آخذة في الاعتبار أن الوضع الشعبي في اليمن عموماً، وفي مناطق الشمال على وجه الخصوص، أظهر تماسكاً لم يكن مقدراً بهذا الحجم. وذهب أحد المعنيين إلى حد القول بأن لا خشية مطلقة على أي انقسام في الشارع اليمني يمكّن المعتدين من تحصيل أثمان للعدوان.

وينقل المطلعون، أن تطورات الساعات الماضية تعطي الانطباع القوي بأن السعودية لا تملك استراتيجية واضحة، وأن ما ادعته حول جاهزية عربية ودولية لمساندتها في هذه الحرب، ليس دقيقاً على الإطلاق، وأن عواصم كثيرة تؤيد العدوان، سارعت إلى التوضيح بأن موقفها يقتصر إما على الدعم السياسي أو على إبداء الاستعداد لتدخل في حال بروز خطر على نظام آل سعود. وهو ما يجعل المراقبين يلفتون إلى أن التسلق السريع لآل سعود إلى أعلى شجرة الحرب، بات يحتاج خطوة كبيرة لكي يصار إلى إنزاله سريعاً قبل فوات الأوان.

ماذا عن خيارات قوى العدوان؟

ــــ في حالة استمرار الغزو الجوي، فإن بنك الأهداف لدى قوى العدوان سينتقل سريعاً ليكون مقتصراً على المدنيين، خصوصاً أن انتشار الحوثيين الواسع على مجمل البلاد، يمنع على الغزاة تحقيق نتائج من النوع الذي يلزمهم بالاستسلام. لذلك، إن الاستراتيجية المقابلة تقوم على قاعدة «الصمود والتحمل».

ــــ في حالة قصدِ قوى العدوان توسيع دائرة القصف الجوي بقصد خلق وقائع على الأرض لتتحول ضغوطاً على القيادة الحوثية، فإن ما يعرفه السعوديون على وجه الخصوص، هو الواقع الصعب والتاريخي الذي يعيش اليمنيون في ظله، والذي كان أحد أسباب ثورتهم على الحكم هناك، وأحد أسباب سعيهم إلى الاستقلال بعيداً عن الهيمنة السعودية. وبالتالي، إن غالبية اليمنيين تسخر من الحديث عن تحويل الضربات إلى عناصر ضغط شعبية. أما الاستراتيجية المقابلة فتقوم على قاعدة «التماسك والتحدي».

ــــ إذا واصل المعتدين جنونهم وعمدوا إلى ارتكاب مجازر كبيرة بحق المدنيين، من خلال غارات مكثفة وقاسية، فإن التجربة القائمة الآن، أي خلال الأشهر القليلة الماضية، تعطي لكل خبير عسكري في العالم الجواب المباشرة على النتيجة. لقد نفذت قوات التحالف الغربي أكثر من ثلاثة آلاف غارة جوية على مواقع ومناطق نفوذ داعش في سوريا والعراق. ولم تؤثر هذه الغارات في الوقائع على الأرض. وفقط عندما تولت قوات على غير صلة بدول التحالف قيادة عمليات برية مدروسة، ظهرت النتائج. وها هي الموصل، ولو شنّ عليها عشرات الألوف من الغارات، فإن تحريرها من داعش لن يحصل من دون عمليات برية. أما الاستراتيجية المقابلة فتقوم على قاعدة «تثبيت المواقع وبدء الرد العنيف».

ــــ أما في حالة لجوء قوى العدوان إلى العمل البري بقصد احتلال مناطق لإبادة الحوثيين وأنصارهم، ولفرض وقائع سياسية، فإن الأمور ستذهب نحو ما يمكن أحداً ضبطه أو حتى تخيل نتائجه. ذلك أن الاستعدادات لا تقتصر فقط على وضع خطط مواجهة على الحدود البرية أو البحرية، بل على إحباط أي هجمات مباشرة، وفي حالة أخرى، على إبادة القوى المتوغلة داخل الأرض اليمنية. وفي هذه الحالة، يملك الحوثيون على وجه الخصوص، من العناصر التقنية والميدانية ما يتيح لهم تحقيق شعارهم بتحول بلادهم إلى «مقبرة الغزاة».

ــــ يبقى أمام قوى العدوان أن تتوقف عن هذا الجنون، وأن تبحث مع الآخرين ومع القادرين عن حل يحفظ ماء الوجه إعلامياً، وإن ذلك لن يكون إلا من خلال العودة إلى المفاوضات والتوصل إلى حل سياسي. وللعلم، إن شعار الحوثيين كان منذ اليوم الأول للانتقال من عمران إلى صنعاء، ولاحقاً إلى الجنوب، هو فرض حل سياسي قائم على منظومة شراكة كاملة في الحكم، وهذا جل ما يمكن أن يتحقق.

لكن وفق مبدأ الجريمة المتمادية، والنتائج المتتالية، كلما رفع آل سعود من سقف توقعاتهم، وبالغوا في إمكاناتهم، سيكون إحباطهم أكبر. وعندما يكتمل المشهد، سنشهد انتفاضة داخل الجزيرة العربية، قد يكون ـ مع الأسف ـ أبناء أسامة بن لادن وأحفاده هذه المرة في المقدمة!