تكاد تكون عبارة "تنذكر تَ ما تنعاد" العبارة الأكثر تداولاً في لبنان خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية، في إشارة إلى ذكرى بدء ​الحرب اللبنانية​ في 13 نيسان 1975، ذلك اليوم المشؤوم في التاريخ اللبناني القديم والحديث.

وإذا كان اللبنانيون أنفسهم لا يزالون منقسمين في "قراءة" هذه الحرب وتوصيفها بين من يعتبرها "حرب الآخرين على أرضنا" ومن يصرّ على إعطائها الطابع "الأهلي" رغم كلّ شيء، فإنّ الثابتة التي يكاد الجميع يتفق عليها، أنّ هذه الحرب لم تنتهِ عمليًا، بل إنّ "مقوّماتها" باتت اليوم راسخة أكثر من أيّ وقتٍ مضى..

"المذهبية" أولاً..

بين الـ1975 والـ2015، لم يتغيّر الكثير، بل إنّ الأمور ربما ازدادت سوءًا، كما يؤكد الكثير من المراقبين والمتابعين، الذين يجزمون أنّ الحرب "الساخنة" التي انتهت ظاهريًا في العام 1990 لم تُدفَن نهائيًا، بل تحوّلت إلى "باردة"، وباتت راسخة في "النفوس"، شاء من شاء وأبى من أبى.

فإذا كانت الحرب قد قسّمت لبنان إلى منطقتين شرقية وغربية على أساسٍ طائفي، فإنّ الأمور اليوم ليست أفضل حالاً، حتى أنّ الصراع "الطائفي" تحوّل للأسف إلى "مذهبي"، وهو أمرٌ أشدّ خطورة بأشواط، وبات التقاتل الإسلامي الإسلامي والمسيحي المسيحي يتصدّر الساحة، وإن كانت حكمة اللبنانيين وحنكتهم لا تزال تمثل "حصانة" ضدّ كلّ التهديدات والمؤامرات التي تُحاك، خصوصًا مع الظواهر الشاذة التي طفت على السطح بشكلٍ مفاجئ، ولم تتوانَ في تكفير هذا وإرهاب ذاك، بسبب اختلافٍ في العقيدة أو حتى في الرأي.

صراع المحاور..

وأبعد من ذلك، فإنّ "حرب الآخرين على أرضنا" التي فُرِضت على اللبنانيين قبل أربعين عاماً تبدو قابلة للتكرار في أيّ لحظة، هذه المرّة بـ"إرادة" اللبنانيين الذين باتوا منخرطين قلبًا وقالبًا في صراع المحاور، وباتت مرجعيّاتهم الخارجية تتحكّم بالشاردة والواردة، لتبدو مصلحة لبنان مجرّد شعارٍ يرفعونه للتغطية على ولاءاتهم الحقيقية في معظم الأحوال. فهذا فريقٌ محسوبٌ على المملكة العربية السعودية أو ما يُسمّى بمحور "الاعتدال"، وذاك فريقٌ محسوبٌ على الجمهورية الإسلامية في إيران أو ما يُسمّى بمحور "الممانعة"، وبينهما أفرقاء يتبعون مباشرة لدولٍ عربية أو غربية، ويبدّون مصلحتها على ما عداها.

وبين هذا وذاك، فإنّ موجات ما سُمّي بـ"الربيع العربي" لم تترجَم لبنانيًا إلا على شكل "خريف" أو حتى "شتاء"، فكان للبنان نصيبه وحصّته منها، ولعلّ تداعيات الأزمة السورية السلبية على الساحة اللبنانية خير دليلٍ على ذلك، ليس فقط على صعيد النازحين السوريين الذين استقبلهم لبنان بشكلٍ يفوق طاقته بأضعافٍ وأضعافٍ، ما أدّى إلى فوضى حقيقية تداخلت فيها العوامل الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية، وتحوّل معها كلّ من يرفع صوته إلى "عنصري" برأي كثيرين، وإن تسلّح بـ"المنطق"، خصوصًا في ضوء التجربة التي عايشها لبنان مع اللاجئين الفلسطينيين. وهنا، لا يشكّك المراقبون بأنّ من التداعيات الكارثية للأزمة السورية على لبنان تسلّل "الإرهاب" إلى داخله، وهو ما تجلى من خلال الاعتداءات الإجرامية والتفجيرات الانتحارية التي تعرّضت لها أكثر من منطقة لبنانية، دون أن ننسى الوضع الحدودي المتفجّر، فضلاً عن أزمات المخطوفين التي تتجدّد بين الفينة والأخرى، والتي تشكّل جرحًا نازفًا في صميم الوطن بكلّ ما للكلمة من معنى.

"أمراء الحرب" ما زالوا هنا..

وتبقى مفارقة أساسية لا يمكن لذكرى الحرب أن تمرّ دون أن تُذكَر، ذلك أنّ من يتحكّم اليوم بالشاردة والواردة ليسوا سوى "أمراء الحرب" أنفسهم، أمراءٌ لا يزالون يتصدّرون الساحة ويسرحون ويمرحون كما يحلو لهم ودون أيّ خجل، ومن قرّر طوعًا أو قسريًا "الانسحاب" من الشاشة سلّم الدفة وفق منطق "الإقطاع" المعمول به في لبنان لـ"ورثته"، لتبقى العائلات نفسها هي الحاكمة بأمرها.

"أمراء الحرب" ما زالوا هنا إذاً، بل إنّهم أنفسهم من "تنافسوا" خلال الساعات الماضية على "التنظير" حول الحرب والدعوة إلى "الاتعاظ" منها تحت عنوان "تنذكر تَ ما تنعاد"، وكأنّهم "ملائكة" لا شأن لهم بها لا من قريب ولا من بعيد، متجاهلين أنّ سياساتهم السابقة، والتي لم تتغيّر في الغالب الأعمّ، وخصوصًا بالنسبة لتحويل لبنان لصندوق بريد وساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، هي التي تسبّبت بالحرب وأمّنت لها كلّ المقوّمات والممهّدات.

فراغ وفوضى وأكثر!

لا تبدو صورة لبنان بعد أربعين عامًا على الحرب زهرية أو ورديّة بأيّ شكلٍ من الأشكال، بل هي تكاد تكون سوداوية بكلّ ما للكلمة من معنى..

ها هو لبنان اليوم من دون رأس، يعاني من "فراغ قاتل" في سدّة الرئاسة ذي الصلاحيات "المنقوصة" أصلاً، بفعل "اتفاق الطائف" الذي يعاني من "ثغراتٍ" بالجملة، تستوجب إعادة نظر واعتبار بشكلٍ لا يحتمل اللبس.

لبنان هذا يتحكّم به اليوم "أمراء الحرب" أو "الطوائف" أنفسهم، هم الذين يضربون عرض الحائط كلّ المبادئ الديمقراطية، ويمدّدون لأنفسهم من دون أيّ تردّد، وغصبًا عن الجميع، ويأتمرون من الخارج، وحتى من السفراء الذين يحوّلونهم عن سابق تصوّر وتصميم إلى "مفوضين سامين"..

لبنان هذا كان لينهار بالتأكيد، لو لم يكن فيه شعبٌ أراد الحياة وقاوم الاحتلال وثار على كلّ أشكال "الوصاية" و"الانتداب"، شعبٌ مصمّمٌ على "النضال" رغم كلّ شيء، وهو وحده قادرٌ على أن تتحوّل الحرب لـ"ذكرى" فعلاً وقولاً بعيدًا عن الشعارات!