مرّت ذكرى الحرب اللبنانيّة، وبقيت قافلة عين الرمانة تنتظر لبنان جديدًا يولد من رحم الأنقاض، ولبنان الجديد لا يزال حلمًا نعيشه، ننتظره ولا تتحقّق ولادته. غير أن السؤال المقلق والموجع المرافق لنا في كلّ المراحل التي نجتازها الآن: هل تعلمنا من تلك الحرب التي ازدوجت فيها العناوين والمعايير، هل فهمنا بأنّنا كلبنانيين كنّا وقودًا لأتون أشعله الآخرون بنا ومن خلالنا على أرضنا فبلغنا نهاية عبثية بتسوية هشّة غير متوازنة أبقت لبنان هشًّا ومعطوبًا وقابلاً للانفجار في أيّ لحظة ممكنة؟

خطورة الأمر، ونحن في ذكرى الحرب اللبنانيّة، أنّ النخب والطبقات السياسيّة لم تجرِ قراءة نقديّة لمسرى الحرب بكلّ منعطفاتها تؤهّلها لنحت تسوية تنبع من طبعنا وتراثنا الفريد لتصبّ في نظامنا السياسيّ بهيكله الطائفيّ وتطوّره في انبعاثه جديدًا متحرّرًا من النتوءات النافرة والفجوات الفاغرة والتراكمات السافرة، بكلّ أبعادها السلبيّة الحامية بتبنّي مفردات جديدة وبنّاءة تستشرف مستقبل لبنان ودوره في الداخل والخارج. كل التسويات لم تكن لبنانيّة بقدر ما خضعت لتوازنات دولية وإقليميّة أبقت لبنان أرضًا خصبة لانعكاس حروب الآخرين عليه، فبقي ساحة لاضطرام حروب صغيرة، واضطراب الفئات الطائفية والمذهبيّة، فيذهب اللبنانيون صاغرين متنقلين من حرب إلى أُخرى.

لا يمكن التماس حلول جذريّة بلا قراءة نقديّة بمنهجيّة تاريخيّة ومعايير واقعيّة ومسلكيّات ذات أبعاد استراتيجيّة تعنى بالواقع الذي نحن فيه، والواقع في ارتجاجه غير بعيد عمّا كنّا عليه، مع فارق بسيط، بأنّنا لم نسقط على الرغم من الحروب بالفراغ الدستوريّ على مستوى رئاسة الجمهوريّة في حين أنّنا في الظرف الحاليّ لا نزال نستلذّ الفراغ ونتعمّد إبقاءه وديمومته، لكوننا فقدنا الحلّ الداخليّ، رهنّا الاستحقاق الجوهريّ بالمعارك الدائرة ما بين سوريا واليمن.

بهذا الواقع من هو المؤهّل لإجراء قراءة نقديّة وما هي النتيجة الممكن ترقبّها منها وخلف سطورها؟ وقد حدث أنّنا في لبنان دخلنا في مشاريع حواريّة دون استثمارها داخليًّا وتثميرها في إرساء حلول سياسيّة جذريّة متينة تقي لبنان من استمرار الحروب على أرضه. ليس من جواب واضح وصريح في ظلّ انفجار المفردات الناريّة وتشظّي العبارات من الداخل إلى الخارج ومن الخارج إلى الداخل. والسؤال الذي يقلق بعض المتابعين في الشأن السياسيّ هل سيصمد الحوار بين "حزب الله" و"تيار المستقبل" وهما ملتهبان بحرب اليمن وعاصفة الحزم وتداعياتها العميقة على الأرض اللبنانيّة؟

لم يتغيّر شيء البتّة منذ تاريخ اندلاع الحرب اللبنانيّة في 13 نيسان 1975، والمولودة من رحم مجموعة قراءات وحروب صغيرة بدت المقدّمة لاستعارها وانفجارها. لا يزال لبنان بموقعه ونظامه الطائفيّ أرضًا خصبة لصراعات تحاك على أرضه، وإذا ما تاق بعضهم لتوصيف الحلول فينحصر التوصيف بتشخيص المشهد لأنّ الحلّ ليس بيد اللبنانيين، بل هو بيد الآخرين الذين إن اتفقوا على تسوية كما حصل سنة 1990 خلال اتفاق الطائف فتسير وتسري بمناخات تسمح بمجموعة مقايضات، وعلى الرغم من ذلك فإنّ المقايضات وأدت الطائف في لحظة ولادته ولم يشفَ لبنان من ثقافة الوصاية التي لا تزال راسخة في أدبياتنا اللبنانيّة، وأقوى متانة من انتمائنا الوطنيّ.

ننطلق من الذكرى إلى أرض الواقع، فنرى أن الواقع امتداد للذكرى الأليمة، بل أكثر إيلامًا في استشراء الخطاب السياسيّ والتسيّب الأمنيّ في محطّات متفلّتة أدخلت لبنان في احتراب مذهبيّ، هذا إذا لم نقل أنّها انطلقت منه في لحظة اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري. صعوبة الأمر أنّ الحرب لم تعد محصورة بلبنان، بل اتسعت اللبننة بمعناها السلبيّ الذي ينتمي إلى حقبة الحرب من المشرق العربيّ إلى الخليج، فاتسعت مسافتها لمفردات يتداول بها كالعرقنة والصوملة والبلقنة، وهي عبارات مستمدّة من الواقع الذي يمكن البلوغ إليه كنتيجة حتمية للحرب من سوريا إلى العراق واليمن. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ المساحة اللبنانيّة ضاقت آفاقها بالحوار المحصور بأطر بسيطة جدًّا، تتعلّق بتأمين الاستقرار الهشّ، فيما هو مفتوح على سجالات تدافع عن الدول المعنيّة بالحرب في اليمن وعلى اليمن والحرب في سوريا وعلى سوريا. غير أنّ المجتمع السياسيّ اللبنانيّ، بتنوعه واصطفافه لم يميّز "ما بين الخراف والجداء"، في توصيفه وتشخيصه لكل حراك سياسيّ مأخوذ إلى مواقع الصراع من إسرائيل وتركيا إلى السعودية فإيران، لم يطرح الأسئلة عن الرعاة للقوى المتطرفة والتكفيريّة ومنتجيها وممولّيها وداعميها ومستهلكيها والمحركين لها، التي تحرق الأرض وتذبح البشر وتدمّر الحضارات، ما بين سوريا والعراق، وفي لبنان عنيت بزرع المتفجرات على أرضه وبخاصّة في الضاحية الجنوبيّة، وإدخال المجتمع اللبنانيّ في حروب امتدّت من طرابلس وصيدا إلى عرسال، ونالت تونس مؤخّرًا جزاءها من إجرامها عن طريق ليبيا. ألا يستحقّ هذا الأمر وقفة نقديّة من المجتمع اللبنانيّ بأطيافه كافة بعيدًا عن التجميع السياسيّ والمذهبيّ المنغرس في البنية اللبنانية، واستخلاص النتائج من تداعياتها، فنقتنع بأنّنا بلغنا قمّة الاعتدال عند الشرائح السياسيّة كافّة، وقوى الاعتدال تعقل في توجهاتها، أي تستعمل خطاب العقل لا الغرائز في زرع رؤى جديدة تفيد من الواقع فتحيّد لبنان عن الصراع المذهبيّ، من دون حياده عن مقاومة إسرائيل والقوى التكفيريّة التي زرعتها في مختلف البلدان العربيّة، أو بحدّ أدنى ساهمت بزرعها.

يتضح من كلّ ذلك، أن اعتماد بعض القوى صفة الاعتدال في مجتمعاتها المذهبيّة، ليس سوى حجاب توظيفيّ وتبويبيّ، ما لبث أن تمزّق أمام عاصفة الحزم، ليستكمل التوظيف كحجاب جديد لتغطية أدوار والتماس أدوار على أرض الواقع العربيّ المتفجّر واللبنانيّ المتأثّر والمتناثر. وممّا لا شكّ فيه بأنّ الحوار بين الحزب والتيار أنتج مجموعة تفاهمات ترجمت على الأرض بإلقاء القبض على عدد من رؤوس القوى التكفيريّة المساهمة بأحداث طرابلس وعرسال، لكنّ تلك التفاهمات تحتاج إلى المزيد من التوسّع، وبخاصّة على مستوى تحديد القوى العدوّة للبنانيين مسيحيين ومسلمين وبخاصّة القوى التكفيريّة، وفضح منتجيها ومموليها ومحركيها، والتمييز بين الجداء والخراف في مسرى الاصطفاف السياسيّ.

هل تملك القوى السياسيّة القدرة على ذلك؟ السؤال مفتوح للتمحيص والتدقيق. وبرأي خبير ومفكّر سياسيّ، إنّ القوى المحليّة اللاعبة على أرض لبنان، الكبيرة والصغيرة، تعلم أن الأرض اللبنانيّة مدى لاستثمار الدول في استمرار الحرب أو ترسيخ الاستقرار بتسويات طويلة أو قصيرة الأمد. الحرب اللبنانيّة التي انطلقت شرارتها الأولى في بوسطة عين الرمانة، تداخل فيها العامل الفلسطينيّ فأدخل في صراع مع اللبنانيين وبخاصّة الفريق المسيحيّ، وسلك لبنان سلوك الانقسام العموديّ الطائفيّ، وتداخل بمؤسساته وجيشه وأمنه، وحلّ الأمن الطائفيّ مكان الأمن الوطنيّ. والأرض عينها لا تزال خصبة لاستدعاء الحرب استمدادًا للحروب المتنقلة في سوريا والعراق واليمن. والقوى السياسيّة إذا ملكت القدرة، فعليها أن تقف على الأرض وتحدّد بأن عدوّ لبنان هو كلّ من موّل الحرب في السابق، ويموّل في الزمن الراهن القوى المتطرّفة الساعية إلى إلغاء الفرادة اللبنانيّة بخصوصيّاتها المتميّزة بإيجابيّة اللقاء بين مكوناتها. التحديد بات ضروريًّا، لأن الحرب على تلك القوى وطنيّة وقوميّة، فإذا لم نقف ونعلن الحقائق، فإن بوسطة عين الرمانة لا تزال ماثلة أمامنا راكنة في موقف معدّ للانفجار مرّة أخرى.