كان اسمها وحده كافياً يوم أمس لكي يدلّ إلى المعنى الفعلي والتطبيق العملي لقيَم الحرية ومفهوم السيادة ومبادئ الاستقلال، على عكس أولئك الذين اكتفوا ولا يزالون من كلّ ذلك بالشعارات الرنانة البرّاقة في الساحات وعلى الشرفات والشاشات و«الجاكيتات».

قال كثيرون إنّ كرمى خياط هي التي حاكمت المحكمة وليس العكس، هذا صحيح، ولكن الصحيح أيضاً أنها أصدرت الحكم المبرم، غير القابل للمراجعة ولا النقض، على النظام السياسي اللبناني المهترئ، وعلى حكومته ومسؤوليه المتقاعسين عن القيام بواجباتهم في حماية الحرية وحفظ السيادة وصون الاستقلال.

في الشكل قدّمت لنا كرمى وصفاً دقيقاً لمحكمة لاهاي… المبنى الفسيح والمكاتب الفخمة والقاعات المجهّزة بأحدث وسائل التكنولوجيا، ثمّ الرواتب الخيالية التي يتقاضاها العاملون فيها من قضاة ومحامين وموظفين، عدا عن تلك التي تقاضاها المستقيلون منها، وقبلهم الذين عملوا في لجنة التحقيق الدولية السيئة الصيت والسمعة. بينما رواتب القضاة عندنا والضباط والجنود والأساتذة والموظفون بالقطّارة لا بالسلسلة، وحدّث ولا حرج عن أوضاع قصور عدلنا ومباني وزاراتنا ومدارسنا الرسمية وجامعتنا الوطنية.

وفي الأساس نعرف جميعاً أنّ المحكمة ولدت من رحم لجنة التحقيق، لكنها انتقت ما يناسبها من عمل تلك اللجنة ونحّت جانباً ما لا يناسبها، بل ما يزعجها. استندت المحكمة إلى نتائج تحقيقات اللجنة، لكنها تجاهلت الشهود الزور والرشاوى والتسريبات و«الحقيقة ليكس» وكل الوسائل الملتوية والأساليب المشبوهة التي اتبعتها اللجنة للوصول إلى تلك النتائج! الغاية لا تبرّر الوسيلة .

كما أننا نعرف جميعاً كيف يتمّ تمويل المحكمة من جيوب اللبنانيين، ومَن يتخذ قرارات التمويل من دون حسيب أو رقيب! وإذا كان رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي جدّد التباهي بذلك أمس، فإنّ الإنصاف يفرض أنّ نسجّل له موقفه من المحكمة ورسالته إليها المتضمّنة اعتراضه على توسيع صلاحياتها ومطالبتها بـ«إحالة كلّ الملفات المتعلقة بالإعلام اللبناني على القضاء المختصّ في لبنان، لأنه يبقى المرجع الصالح».

ألا يجدر برئيس الحكومة الحالي أن يتابع ما بدأه سلفه، على قاعدة أنّ الحكم استمرار؟ بالتالي اتخاذ الموقف المناسب الذي يمنع أيّاً كان من التعدّي على سيادة لبنان من خلال التعدّي على صلاحيات قضائه؟

والحريّ أنّ ما ينطبق على رئيس الحكومة ينطبق على الوزراء وسائر المسؤولين، خصوصاً وزيري العدل والإعلام، اللذين عليهما تنحية مواقفهما السياسية جانباً والقيام بما تفرضه عليهما المسؤولية الوطنية، حيث على الأول أن يتصدّى لكلّ ما ومَن يمسّ سلطة القضاء ـ السلطة الثالثة. وعلى الثاني الدفاع عن الحريات العامة لا سيما الحريات الصحافية والإعلامية ـ السلطة الرابعة ـ وعدم تمكين أحد، محكمة أو غير محكمة، من التأثير على وسائل الإعلام أو محاولة إسكاتها ومنعها من القيام بدورها كاملاً، وفق ما ترعاه القوانين وما تنص عليه مقدمة الدستور اللبناني.

ختاماً، تحية إلى الزميلة كرمى خياط وقناة «الجديد» على مواجهتهما المحكمة في عقر دارها، وتحية مماثلة إلى الزميل إبراهيم الأمين وجريدة «الأخبار» اللذين اختارا طريقة أخرى للمواجهة، إلا أنّ هذه المواجهة تبقى واحدة لأنّ المعركة واحدة، وهي معركة حفظ لبنان الذي طالما أردناه نطاق ضمان للفكر الحرّ…