في لقاء باراك أوباما وحيدر العبادي برز عدو مشترك وهاجسان مختلفان. العدو هو «الدولة الإسلامية داعش». هاجس العبادي تعبئةُ العراق والعراقيين، سياسياً وعسكرياً، لمواجهة «داعش» وصولاً الى إجلائه عن كامل المحافظات التي احتلها في بلاد الرافدين. هاجس أوباما الحدُّ من نفوذ إيران ودعم حكومة العبادي ضدّ «داعش» في حدود اتفاق الإطار الاستراتيجي للعام 2008، أيّ بما يؤمّن حماية مصالح الولايات المتحدة بعد جلاء قواتها عن العراق أواخرَ عام 2011.

في رأي أوباما أنّ مواجهة «داعش» «عملية طويلة الأمد»، ومع ذلك تفادى الخوض في طلب العبادي بتزويد العراق بأسلحة متطوّرة، خصوصاً طائرات «أباتشي» والطائرات من دون طيار التي تساهم في حال توفيرها برفع مستوى القدرات العسكرية العراقية في معارك المدن التي تخوضها. برّر أوباما تجاهله مسألة تزويد العراق أسلحةً متطوّرة «بعدم وجود طلب محدّد من العبادي خلال المحادثات».

الحقيقة أنّ لتجاهل أوباما سبباً آخر. إنه هاجس واشنطن المقلق من تزايد نفوذ إيران في العراق ولا سيما بين أطراف «الحشد الشعبي» الذي يساند الجيش العراقي في معاركه ضدّ «داعش». أزمة الثقة هذه تجلّت أثناء معركة تحرير تكريت إذ أعلنت واشنطن كما «الحشد الشعبي» بعدم المشاركة فيها إذا ما شارك فيها الطرف الآخر. واشنطن برّرت موقفها بأنّ «الحشد الشعبي» يقوم بارتكاب أعمال قتل وانتقام وسلب ونهب في المناطق التي يجرى تحريرها من «داعش». في المقابل، يتهم «الحشد الشعبي» سلاح الجو الأميركي بدعم «داعش» بأسلحة وأغذية يلقيها في المواقع التي تحاصرها قوات «الحشد الشعبي» بالتعاون مع قوات الجيش العراقي.

العبادي أقرّ بأنّ «انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان» وتجاوزات حدثت وأنه لن «يتسامح معها إطلاقاً». لكنه بيّن أنّ تلك الاختراقات كانت من مندسّين حاولوا الإساءة إلى الانتصارات المتحققة، معتبراً أنه «لا يجب تحميل الحشد الشعبي مسؤولية هؤلاء المندسّين».

أوباما تفهّم تفسير العبادي للانتهاكات بقوله إنّ «تعبئة» قوات «الحشد الشعبي» حدثت عندما برز تنظيم «داعش» وكانت الحكومة العراقية في مرحلة التكوين، ولكن «فور تولي العبادي السلطة… من تلك النقطة فصاعداً، فإنّ أيّ مساعدة أجنبية ويعني بها مساعدة إيران لـِ «الحشد الشعبي» يجب أن تمرّ عبر الحكومة العراقية».

العبادي أيّد هذا الرأي الذي يدعو إليه أيضاً المرجع الشيعي الأعلى السيد السيستاني بقوله: «إنه يتوق إلى إخضاع جميع المقاتلين في العراق لسلطة الدولة». وكان قد باشر، قبل لقائه أوباما، باتخاذ سلسلة من الإجراءات لطمأنة الأميركيين أبرزها تحويل «الحشد الشعبي» إلى مؤسسة رسمية تتبع القائد العام للقوات المسلحة. لكن المسؤول الأسبق عن ملف العراق في مجلس الأمن القومي الأميركي دوغلاس أوليفنت قال على هامش زيارة العبادي ولقائه أوباما: «إنّ الوقت قد حان للأميركيين من أجل المراهنة على أصدقائهم في العراق لمواجهة النفوذ الإيراني، وإنّ العبادي هو أحد هذه الوجوه». لكنه عاد واستدرك قائلاً: «لكنني أعتقد أنها مهمة صعبة لأنّ النفوذ الإيراني تزايد ليس في العراق فحسب بل في مكتب العبادي أيضاً».

ربما بانتظار حلّ أزمة الثقة العالقة بين واشنطن وبغداد، آثر أوباما تجاهل مسألة تزويد العراق أسلحةً متطوّرة في الوقت الحاضر والاكتفاء بمنح حكومة العبادي مبلغ 200 مليون دولار مساعدة إضافية للأغراض الإنسانية.

الحقيقة أنّ أزمة الثقة ليست عالقة بين إدارة أوباما وحكومة العبادي بقدْر ما هي قائمة وفاعلة بين أطراف المشهد العراقي برمّته. ذلك أنّ الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 أدّى إلى حلّ الجيش العراقي، العمود الفقري للدولة، وتمزيق نسيج المجتمع العراقي، وتأجيج الحساسيات والخلافات المذهبية بين مختلف مكوّناته. المفارقة أنّ القوى السياسية والجماعات والأفراد الذين هبّوا لمقاومة الاحتلال الأميركي وأكرهوه أواخرَ عام 2011 على الانسحاب، أصبحوا الآن، في معظمهم، ممّن يهادنون «داعش» من جهة ويعارضون «العملية السياسية» التي أنجبت حكومة نوري المالكي ثمّ حكومة حيدر العبادي لاحقاً من جهة أخرى.

بكلام أوضح، نتيجةَ إثارة العصبيات الطائفية والتدخلات الخارجية باتت القاعدة الشعبية العراقية منقسمة إلى «موزاييك» عجيب من مذاهب: سنّة، وشيعة، وكلداناً وآشوريين مسيحيين، وصابئة، ومن إثنيات: كرداً وتركاً وفرساً وأزيديين وغيرهم. أجل، أصبح الشعب العراقي شتاتاً في وطنه تتقاذفه وتتنازعه قوى سياسية مغلقة على نفسها، تتعاطى السياسة بمنطق المحافظة على الذات واستجلاب المصالح والمنافع. إلى ذلك، استشرى الفساد في الدولة والمجتمع على السواء الأمر الذي بدّد الموارد والثروات الوطنية على أيدي زعماء الأصح «ذوعماء» ومتنفذين لا تحرّكهم إلاّ عصبياتهم ومصالحهم.

مع ذلك لا يخلو المشهد العراقي من قيادات وشخصيات ومثقفين ومواطنين أمناء لوطنيتهم وعروبتهم وأخلاقهم وقيمهم الشريفة. قلة، لا كثرة، من هؤلاء شاركت في «العملية السياسية» وفي تأليف الحكومات المتعاقبة وآخرها حكومة حيدر العبادي. صحيح أنّ حكومة العبادي أفضل بما لا يُقاس من حكومة المالكي، لكنها تفتقر بالتأكيد للصفة الوطنية العامة والقاعدة الشعبية الواسعة. لقد وعد العبادي نفسه ومواطنيه والقوى الحية في بلاد الرافدين كما أصدقاءه الإيرانيين والأميركيين بأنه مصمّم على توسيع حكومته لتصبح حكومة وحدة وطنية جديرة وقادرة على مواجهة التحديات التي تهدّد البلاد من كلّ الجهات وفي مقدّمها «داعش». لكن ليس في الأفق ما يشير إلى أنه وبلاد الرافدين مع موعد قريب لتحقيق هذا الإنجاز الوطني التاريخي.

إنّ المواطنين كما القياديين الوطنيين والشعبيين الشرفاء يدركون أنّ نهوض العراق من أزمته الصعبة وشتاته المقلق، ونجاح قواه الحية في اجتراح قدرات سياسية واقتصادية وعسكرية كفيلة بمواجهة التدخلات الخارجية والتحديات الداخلية مشروط بإعادة اللحمة إلى نسيجه المجتمعي، والوحدة إلى مكوّناته السياسية والاجتماعية، والتوافق على برنامج وطني للتحرير والمقاومة وبناء الديمقراطية وحكم القانون والتنمية الشاملة.

أجل، التغلّب على توحّش «داعش» وتدخلات القوى الخارجية الطامعة، وفساد قوى الداخل المتكالبة على المال والمصالح والمنافع مشروط بقيام قوى الحركة الوطنية الشعبية الديمقراطية الاتحادية، وبتوطيد التعايش بين مكوّنات المجتمع والدولة، والتوحّد في نضالها من أجل تحقيق أهدافها السياسية والحضارية العليا.