بعد 55 سنة على اقامة العلاقات الدبلوماسية بين الفاتيكان وتركيا، تشهد العلاقة اليوم اسوأ مرحلة لها بسبب كلمة واحدة اشعلت التوتر وألهبت المشاعر التركية الى حد وصل الامر الى التهديد بـ"حرب دينية" من خلال ما قاله مفتي انقرة(1)عن "​آيا صوفيا​".

اسباب رفع السقف التركي بهذا الشكل لم يكن مفهوماً، خصوصاً وان تعبير "الابادة" كان صدر عن البابا الراحل القديس يوحنا بولس الثاني في العام 2010، واثار في حينه استياء انقرة الا ان العلاقات بقيت تحت سقف الاعتراض المقبول، كما زار بعدها البابا السابق بنديكتوس السادس عشر تركيا ودخل الى مسجد السلطان احمد (معروف بالجامع الازرق) عام 2006، وهي خطوة قام بها ايضاً البابا الحالي فرنسيس منذ اقل من خمسة اشهر.

صحيح ان العلاقات بين تركيا والفاتيكان لم تكن عبر التاريخ "سمناً وعسلاً" بسبب الحروب العالمية التي اتخذ فيها الطرفان موقفاً متناقضاً، لكن "شعرة معاوية" لم تنقطع يوماً رغم ما قيل عن معارضة قوية للبابا السابق بنديكتوس لانضمام تركيا الى الاتحاد الاوروبي.

ولكن، ماذا يعني عملياً تهديد مفتي انقرة باعادة فتح مسجد "آيا صوفيا"(2)التاريخي؟

آيا صوفيا حالياً هي متحف يزوره الآلاف من السياح كل عام، وتعتبره تركيا مصدراً سياحياً بامتياز. ولكن اذا ما قرر الاتراك بالفعل اعادته الى مسجد فسيكون للخطوة تداعيات خطيرة جداً. من شأن هذا الامر ان يهدد بشكل جدي وعميق العلاقات التركية-الاوروبية من جهة، والعلاقات مع الفاتيكان من جهة ثانية، بحيث تنتقل في الاولى من التقبل الى الحذر والتخوف، وفي الثانية من التوتر الى سقف الخط الاحمر وهو الخط الاخير الذي يسبق القطيعة رغم انها لن تحصل.

على المستوى السياسي ستعاني تركيا من مشاكل حقيقية اذ سيراها الغرب واوروبا بنوع خاص وكأنها تعمل بشكل فعلي على اعادة "الامبراطورية العثمانية" في القرن الواحد والعشرين رغم تغيّر الظروف بشكل جذري، وستخسر قنوات اتصال اساسية مع الخارج، كما انها لن تجد قبولاً لهذه الخطوة في المجتمع العربي الذي لن يحتضن هذا التحول لانه يعلم تماماً مدى تأثيره السلبي على الصورة الخارجية للعرب بشكل عام.

اما على المستوى العملي، فستكون تركيا قد قضت بالفعل على آخر "خرطوشة" لها للانضمام الى الاتحاد الاوروبي، كما قد تشهد تشديداً في فتح قضايا تتعلق بحقوق الانسان وهي امور تخشاها تركيا خصوصاً بعد التظاهرات الدامية التي حصلت منذ اشهر واحرجت الرئيس التركي وحكومته. كما قد يرى البعض انها تخالف قرار مؤسس الجمهورية مصطفى كمال اتاتورك الذي اراد بنفسه ان يحول هذا المعلم الديني الى متحف، فهل رجب طيب اردوغان اهمّ من اتاتورك؟ وبين هذا وذاك، تكون تركيا قد هددت موقعها في خريطة القوى الجديدة التي ترسم للمنطقة.

من هنا، يمكن فهم عدم صدور التهديد بسلاح "آيا صوفيا" عن مرجعية تركية رسميّة، انما عن مفتي انقرة الذي يمكن ان تكون السلطات التركية قد استغلّته لبعث رسالة دون ان تتقيد بموقف او ترتبط به، وللقول ان تعبير ​البابا فرنسيس​ عن الابادة قد اثار حفيظة الاتراك على كل المستويات.

ووفق هذا المنطق، يمكن الاعتبار ان "آيا صوفيا" سيبقى متحفاً ولن يغامر الاتراك بتحويله الى سلاح "ذي حدّين" قد يوقع خسائر للفاتيكان ولكنه سينفجر في وجه مستخدميه.

(1)بتاريخ 16/4/2015، اعتبر مفتي العاصمة التركية أنقرة مفاعل هِزْلي أن "تصريحات البابا فرنسيس الأخيرة حول أحداث العام 1915، قد تكون سببًا في تسريع إعادة فتح مسجد آيا صوفيا للعبادة من جديد".

(2)آيا صوفيا تعني باليونانية الحكمة الالهيّة، وهي بازيليك ارثوذكسية أُنشئت وفق هندسة بيزنطية رائعة. وبعد غزو السلطان محمد الثاني القسطنطينية عام 1453، وبعد حصار استمر 54 يوماً، قرر تحويل البازيليك الى مسجد. وفي عام 1934، اصدر مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال اتاتورك قراراً بتحويل المسجد الى متحف.