بعد انتهاء الانتخابات الإسرائيلية، وما رافقها من حملة عنصرية صهيونية مسمومة غير مسبوقة ضد العرب الفلسطينيين، وبعد أن أوقف نتانياهو دفع أموال الضرائب المجباة لصالح السلطة الفلسطينية كورقة ضغط عليها لمنعها من تقديم طلب الانضمام لمحكمة الجنايات الدولية، دون جدوى، أو الأقدام على وقف التنسيق الأمني احتجاجا على تمادي الحكومة الإسرائيلية في رفض تسوية الصراع على أساس حل الدولتين ومواصلة الاستيطان، وبالتالي تصاعد الأزمة بين رئيس وزراء العدو بنيامين نتانياهو وإدارة الرئيس الأميركي باراك اوباما، والتي فاقم منها الاتفاق النووي مع إيران، وتزايد الانزعاج الغربي من سياسات نتانياهو غير المتناغمة مع السياسات الغربية بشأن المفاوضات، وبالتالي اشتداد حملة المقاطعة الأوروبية لمنتوجات المستوطنات الإسرائيلية، بعد كل ذلك بدأ نتانياهو سلسلة من الخطوات الالتفافية لاحتواء الأزمة والحد من تفاقمها، وتفادي الأضرار التي ستلحقها بإسرائيل، وتمثلت هذه الخطوات بالآتي:

الخطوة الأولى: إعلان نتانياهو التراجع عن تصريحاته التي تعهد فيها عدم السماح بقيام دولة فلسطينية، وعودة تأكيد التزامه بحل الدولتين.

الخطوة الثانية: اعتذاره من عرب 48 على التصريحات العدائية والعنصرية ضدهم، والتي صدرت خلال الحملة الانتخابية الإسرائيلية.

الخطوة الثالثة: الافراج عن أموال الضرائب المجمدة وتسليمها للسلطة الفلسطينية.

الخطوة الرابعة: السماح بفتح مراكز للشرطة الفلسطينية في بعض مناطق القدس الشرقية.

هذه الخطوات كانت كافية حتى تتوقف السلطة الفلسطينية عن اتخاذ إجراء عملي يوقف التنسيق الأمني مع أجهزة الأمن الصهيونية، والعمل بدلا من ذلك على مواصلته وتعزيزه في القدس بما يخدم الاحتلال الذي يعاني من مأزق تصاعد المقاومة الشعبية في المدينة، وعجزه عن منع عمليات الدهس والطعن ضد الجنود والمستوطنين، وبالتالي حاجته الماسة إلى تعاون السلطة لاعتقال العناصر التي تنفذ مثل هذه العمليات، والتي لا انتماءات تنظيمية لها، كما تفعل السلطة في الضفة الغربية.

وكان لافتا أن معهد واشنطن للدراسات المعروف بسياساته المؤيدة لإسرائيل والمحافظين الجدد في واشنطن قد روج لمثل هذه الخطوة الإسرائيلية باعتبارها «تحقق قدراً من التقدم على المدى القصير وتحافظ على التعاون الأمني الإسرائيلي - الفلسطيني»، عدا عن أنها تضمن قيام قوات الأمن الفلسطينية بمراقبة المناطق المحيطة بالقدس وتسد الفراغ الأمني فيها.

وإذا كان يسوق للخطوة على أنها تعيد تعزيز مكانة السلطة الفلسطينية وتعزيز مصداقيتها، التي جرى الاضرار بها نتيجة عدم السماح بتواجد شرطتها في هذه المناطق وغيرها من المناطق في الضفة الغربية، لكن من الواضح أن الأصل هو العودة إلى سياسة استخدام السلطة وأجهزتها، التي جرى تدريبها على أيدي المخابرات الأميركية في إطار تحقيق الأمن الإسرائيلي مقابل إعطاء السلطة دوراً أمنيا كاستطالة للاحتلال لا يحظى بأي استقلالية ووظيفته الوحيدة ملاحقة كل فلسطيني يقاوم الاحتلال، باعتباره مخربا ومجرما خارجا على القانون، وهي مصطلحات طالما استخدمها المحتل والمستعمر لتبرير عمليات القمع والإرهاب التي يقوم بها ضد المقاومين، وما يؤكد ذلك الأمور التالية:

الأمر الأول: أن قوات الاحتلال، التي تعمل الآن بشكل كامل مع قوات السلطة الفلسطينية، برعاية «منسق التعاون الأمني الأميركي» استخدمت هذه النجاحات بدورها لتوسيع التعاون. فاليوم الاتصالات بين المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين والفلسطينيين تتم يومياً، وقد سمحت إسرائيل في بعض الأحيان لأفراد الأمن الفلسطينيين بالعمل في المناطق التي ليس لهم فيها وجود فعلي، مثل القدس الشرقية.

الأمر الثاني: أسهم تزايد عمليات المقاومة الشعبية في العام الماضي قرب قرية الرام بالقدس في التأثير على القرار الإسرائيلي بالسماح بإقامة وجود أكثر ديمومة واستمرارية لقوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية هناك.

الأمر الثالث: إن الإعلان عن القرار الإسرائيلي بالسماح للشرطة الفلسطينية بالتواجد في مناطق بضواحي القدس قد تم من قبل قائد المنطقة الوسطى في «جيش الاحتلال الإسرائيلي» اللواء روني نوما. لعدم إعطاء المسألة أي بعد سياسي وحصر الأمر بالجانب الأمني الذي يخدم إسرائيل.

وهذا الأمر أكده معهد واشنطن بالقول: «ومن المثير للاهتمام أن هذه الخطوة لم تأت نتيجة مفاوضات رسمية رفيعة المستوى أو مداولات سياسية مفتوحة. وفي الواقع، لو كانت تخضع للمفاوضات، فربما لم تكن لتتحقق نظراً إلى النمط المتبادل من المواقف المتشددة التي برزت في المحادثات الرسمية الأخرى».

لكن ما هي دلالات هذا التطور المتمثل في تعزيز التنسيق الأمني بين السلطة وإسرائيل بدلاً من إيقافه من قبل السلطة؟.

هناك عدة دلالات:

الدلالة الأولى: إن السلطة لم تكن جادة ولا للحظة في الاقدام على خطوة وقف التنسيق الأمني بل استخدمت ذلك للتلويح بها فقط لأن تنفيذ هذه الخطوة يعني دفع الأمور إلى انهيار أوسلو وحل السلطة وهو ما لا تريد الوصول إليه.

الدلالة الثانية: إن التلويح بوقف التنسيق الأمني هدف إلى تلميع صورة السلطة التي باتت في مـأزق بعد أن سد نتانياهو كل المنافذ أمهامها برفضه وقف الاستيطان وتعهده منع إقامة دولة فلسطينية، وتصعيد حملته المعادية ضد الفلسطينيين.

الدلالة الثالثة: تبين أن خطوة السلطة كانت اضطرارية ومنسقة مع الإدارة الأميركية لوضع نتانياهو أمام المخاطر التي قد يتسبب بها تصعيده، لناحية اندفاع الأمور نحو حل السلطة في حال استمر في عدم دفع أموال الضرائب إليها، وبالتالي فلتان الوضع المتفجر اصلاً من أي ضوابط، أو إمكانية احتوائه، وتحذيره من الاستمرار في ذلك، ودفعه إلى التراجع، وهو ما بدا من الخطوات التي اتخذها بعد فوزه بالانتخابات.

الدلالة الرابعة: اتضح أن نتانياهو يتقن القدرة على المراوغة والمناورة وبالتالي الالتفاف على الضغوط التي يتعرض لها أميركيا وأوروبيا، عبر التراجع بالشكل عن بعض الإجراءات والمواقف التصعيدية التي أقدم عليها، من دون التخلي عن مواصلة تنفيذ خططه الاستيطانية في القدس المحتلة وبعض المناطق الإستراتيجية في الضفة الغربية، وصولا إلى جعل هذا التراجع الشكلي بمثابة فرصة لتحقيق ما يصبو إليه من دون أن يواجه الضغوط الأميركية والأوروبية، وهو ما كان سيفعله حزب العمل فيما لو فاز بالانتخابات وكلف بتشكيل الحكومة الإسرائيلية، إضافة إلى أن نتانياهو أراد ايضاً أن يخفف من الضغوط عليه في وقت يواجه صعوبات كبيرة في سعيه إلى تشكيل الحكومة الجديدة.

الدلالة الخامسة: وجود مصلحة أميركية - إسرائيلية في الحرص على استمرار التنسيق بين الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ونظيرتها في السلطة الفلسطينية، بمعزل عن المسار السياسي التفاوضي، خصوصاً بعد أن تصاعد القلق الإسرائيلي - الأميركي من فقدان السيطرة على الشباب الفلسطيني واحتمال اندلاع انتفاضة فلسطينية جديدة بدأت بوادرها في الهبة الشعبية في القدس المحتلة على خلفية اشتداد الاستيطان والقمع والإرهاب الصهيوني.