لأنّ "الفراغ" لم يعدّ يجرّ سوى "الفراغ" في "دولة الفراغ"، وفي وقتٍ لا يزال المجلس النيابي الممدّد لنفسه من دون وجه حقّ "عاجزًا" عن تحمّل أيّ من مسؤولياته تجاه الشعب اللبناني الذي يفترض به تمثيله، لاحت في الأفق "ورقة" جديدة عنوانها "حلّ المجلس"، ورقة طرحها رئيس المجلس النيابي نبيه بري من دون سابق إنذار، وأحاطها بالكثير من الجدّية..

وعلى الرغم من أنّ الدستور "يشرّع" هذه الورقة تجاه برلمانٍ امتنع عن الاجتماع طوال عقد عادي كامل من دون أسباب قاهرة، فإنّ عوامل كثيرة تدفع إلى الاعتقاد أنّها لن تجد طريقها إلى أرض الواقع، وأنّ "قسطها" لن يعدو كونه استعراضًا إعلاميًا ومناورة سياسية لا أكثر ولا أقلّ..

رسالة مبطنة..

تقرّ مصادر سياسية مطلعة أنّ "الحِمل ثقيلٌ" على رئيس المجلس النيابي، كيف لا وهو "ربّان السفينة البرلمانية"، سفينة لم تعد قادرة على "الصمود" في وجه "العجز المتمادي"، والذي لم يعد بالإمكان تبريره أو التغطية عليه بأيّ شكل من الأشكال.

من هنا، تعرب المصادر عن اعتقادها بأنّ الطرح الذي صدر عن بري خلال الساعات الماضية يعبّر عن "صرخة محقّة" تتّخذ شكل "رسالة مبطنة" أراد "الأستاذ" إيصالها لكلّ من يعنيهم الأمر، فالفراغ الرئاسي تحوّل إلى فراغٍ نيابي بكلّ ما للكلمة من معنى، وبات البرلمان مجرّد "ديكور" لا يقدّم ولا يؤخّر، وتكاد تقتصر مهمّاته على الإدلاء بالأحاديث الصحافية والتعليق على الأحداث السياسية، وهي ليست أبدًا المهام التي ينتظرها المواطن من ممثليه.

قد يكون بري جديًا في تهديده وقد لا يكون، إلا أنّ الأكيد، بحسب المصادر نفسها، أنه "يدقّ ناقوس الخطر"، لأنّ الوضع لا يمكن أن يستمرّ على ما هو عليه من الشلل والجمود الذي لا بدّ أن "ينفجر" في نهاية المطاف، وهو بناءً على كلّ ذلك، حرص على "التصويب" بوجه "معطّلي" العمل النيابي بالإجمال، ومن دون تمييز بين الحلفاء والخصوم، لعلّ "الرسالة" تصل ويحقق "الإنذار" أغراضه.

بين الرئاسة والتشريع..

لا شكّ أنّ تفاقم الوضع النيابي هو الذي دفع بري إلى التلويح بخيار حلّ المجلس النيابي، وهو خيارٌ دستوري وشرعي مئة بالمئة، خصوصًا بعدما اصطدمت جهوده لـ"إحياء" البرلمان بشكلٍ أو بآخر، ولو بالحدّ الأدنى أو لرفع العتب، برفضٍ مطلق خصوصًا من قبل المكوّنات المسيحية، تحت عنوان رفض التطبيع مع الفراغ الرئاسي ومنعًا لتحويله إلى أمر واقع أو هامشي، في وقتٍ لا تزال جلسات انتخاب الرئيس "لزوم ما لا يلزم"، وهي التي لم يعد لها أيّ "رهجة"، وباتت عبارة عن "سيناريو مكرّر لدرجة الملل"، على حدّ تعبير المصادر.

وفيما تعتبر مصادر نيابية مسيحية في قوى الرابع عشر من آذار هذه المقاربة "ظالمة"، وتشير إلى أنّ "حلفاء بري" هم أساسًا من يتحمّلون مسؤولية تعطيل المجلس النيابي عبر تعطيلهم نصاب جلسات انتخاب الرئيس، بتغطيةٍ مباشرة أو غير مباشرة من بري نفسه، تشدّد المصادر المشتركة على أنّ "تقاذف كرة المسؤولية" لا ينفع في الوقت الحاضر. هي تتحدّث عن "تواطؤ ضمني" من قبل الجميع يدفع لتأجيل ​الانتخابات الرئاسية​ بانتظار "فَرَجٍ ما" يتّخذ دون شكّ صفة إقليمية. وبالتالي، ترى المصادر أنّ أيّ نصابٍ لن يتأمّن قبل نضوج الصورة الخارجية ووصول أمر العمليات الخارجي، ما يعني أنّ العرقلة لو لم تأتِ من هذا الفريق، لكانت ستأتي من ذاك بالتأكيد، وكلّ المزايدات التي تُطرَح هنا وهناك لا تغيّر من الأمر شيئًا.

أما الجلسة التشريعية المرتقبة فقد باتت في مهبّ الرياح، تؤكد المصادر، بعد "التكاتف" المسيحي المضادّ لها، وهو تكاتفٌ كان يحلم الكثيرون بتحقيقه في الموضوع الرئاسي، فصحيح أنّ انتخاب الرئيس مسؤولية وطنية بالدرجة الأولى، إلا أنّ الأصحّ أنّ معظم الأحزاب السياسية رمت الكرة في الجانب المسيحي، ما يعني أنّهم كانوا قادرين على "فرض" أيّ رئيسٍ يتوافقون عليه. أما وأنهم عجزوا عن إنجاز هذا التوافق، فلم يعد جائزًا لهم تعطيل مسار الدولة برمّتها بسبب فشلهم في انتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهورية.

مجلسٌ يقصّر.. فيُكافَأ

هكذا إذًا، تبدو فكرة حلّ المجلس النيابي فكرة ممتازة، فهذا المجلس تمادى كثيراً في "التقصير"، ولم يَفِ بأيّ من "وعوده"، متذرّعًا دائمًا بـ"الظروف القاهرة" التي تمنعه من الإنتاجية والعمل. هو لم يستطع انتخاب رئيسٍ، ولم يقرّ سلسلة الرتب والرواتب، بل إنّه لم يقرّ أيّ قانون عليه "القدر والقيمة"، ومعظم مشاريع القوانين عالقة في أدراجه تنتظر من "يحرّكها"، علمًا أنّ الكثير من أعضائه "مغتربون" عنه وعن البلد، ويكادون لا يميّزون مكاتبهم الخاصة من مكاتب زملائهم.

هكذا مجلس لا يستحقّ الحياة. هذا صحيح، تقول المصادر، لكنّها تستبعد أيّ إجراءٍ من نوعيّة "الحَلّ". برأيها، يكفي العودة إلى مجريات العقد السابق لمعرفة أنّ "حصانة ما" تقي هذا المجلس من كلّ أنواع "العقاب". على العكس من ذلك، هو كلما ذهب بعيدًا في "قلّة إنتاجيته"، كان "يُكافَأ" على ذلك، وبـ"الإجماع". ويكفي أن يتذكّر المرء أنّ هذا المجلس لم يجتمع مؤخرًا إلا في جلسة "التمديد" الشهيرة التي أطال فيها مدّة التمديد التي كان قد منحها لنفسه مسبقًا للوصول إلى هذه الخلاصة.

إضافة إلى ذلك، تتحدّث المصادر عن بعض "المحاذير" التي تُبعِد احتمال حلّ المجلس النيابي، ومنها أنّ هذه الخطوة لا يمكن أن تتمّ إلا بعد انتخاب رئيس جديد، بحيث يطلب منه رئيس المجلس عندها الطلب من مجلس الوزراء اتخاذ قرار بحل مجلس النواب، وفق الآلية التي يلحظها الدستور، ما يعني أنّ الأزمة ستكون عندها قد حُلّت بدليل أنّ المجلس سيكون قد اجتمع وانتخب الرئيس، وسقطت مع ذلك كلّ "الذرائع" التي تُعتمَد لتعطيل العمل التشريعي. وإضافة إلى ذلك، تلاحظ المصادر تركيز بري على عبارة "الظروف القاهرة" التي يمكن أن تبرّر امتناع المجلس عن الانعقاد، وتلفت إلى أنّ هذه العبارة باتت بحدّ ذاتها "نسبية"، وهي التي سبق أن استُخدِمت لتبرير التمديد، بل لإعطائه ميثاقية وشرعية لا تليق به.

لو نتعظ من تجربة اليونان..

في العام الماضي، حلّ البرلمان اليوناني نفسه بعد ثلاثة أيام فقط على فشله في انتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهورية. أما البرلمان اللبناني فـ"يحتفل" هذه الأيام بمرور عامٍ كاملٍ على فشله في انتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهورية، وهو وبدل أن يحلّ نفسه مدّد لنفسه أكثر من مرّة، ويبدو مستعدًا لإعادة الكرّة في أقرب فرصة.

حلّ المجلس النيابي لا يجب أن يكون خيارًا معلقًا يتخذه رئيس من هنا أو حكومة من هناك. حلّ المجلس النيابي قد يكون بحدّ ذاته الحلّ الحقيقي للأزمة التي يشهدها الوطن، لأنّ لا حلّ بظلّ هكذا مجلس...