اسباب كثيرة عرضت لمحاولة تفسير حماقة آل سعود في شن العدوان الهمجي ضد اليمن وشعبه، لكننا، جميعاً، غرقنا في البحث عن الاسباب المتصلة بنفوذ النظام السعودي خارج حدود سلطته المباشرة. ولم نتوقف جيداً عند اسباب ومحفزات اضافية، لا تقل اهمية، تتعلق بالوضع الداخلي، وبشعب الجزيرة العربية، وبالواقع السياسي القائم، وبمنظومة الحكم المستبدّ من قبل سلالة القهر والتخلف التي تحتجز اكثر من عشرة آلاف سجين من اعضاء التيارات السلفية المعارضين لها، ومئات من الناشطين الذين خرجوا في تظاهرات في المنطقة الشرقية، وفي مقدمهم المناضل الشيخ نمر النمر.

في الجانب الخاص بواقع السلطة، فإن صعوبات تواجه العائلة في اعادة انتاج النظام. صحيح أن المعارضات ليست بحجم يمثل تهديداً وشيكاً او كبيراً، لكنها مثّلت على الدوام الاشارات القوية إلى مشكلات بنيوية يعانيها النظام، بسبب الايغال في سرقة الثروات والعمل تحت امرة الغرب الاستعماري، وتشديد القبضة الامنية على الناس، وفرض آليات متخلفة من العلاقات بالناس هناك. وفي كل مرة، يجد اهل الجزيرة انفسهم في مقارنة بلدهم وحكومتهم بدول الجوار والاقليم، يرون انفسهم في مشكلة مع النظام الحاكم، وخصوصاً ان فترة ولاية عبد الله حتى وفاته، ومنذ ان اقعد المرض الملك السابق فهد، كانت فترة الهروب من استحقاقات التغيير الجدية. وكانت الحيلة باللجوء الى انفاق مالي من دون خطط علمية وجدية، ومن دون اليات رقابة، مقابل الإطباق على كل تغيير من شأنه تعزيز تمثيل الناس في مؤسسات الحكم. وهو امر ترافق مع اشتداد الخلافات داخل الاسرة نفسها، الى ان جاء الملك الحالي سلمان، ليقوم بانقلاب اطاح فيه كل من سبقه، أما من أُبقي عليهم، فكانوا إما لحيثية جدية لا يمكن تجاوزها (محمد بن نايف)، او أُبقوا بصفة استشارية (مثل مقرن) او وُضعوا في موقع مقيد الصلاحيات (مثل متعب ابن عبدالله). وهو تغيير ترافق مع عملية استيلاء سريعة على كل مواقع النفوذ المالي، وخصوصا عبر تعيين الشاب المتهور محمد بن سلمان رئيسا للديوان (حامل الختم والتوقيع على كل انفاق) إضافة الى منصبه في وزارة الدفاع. حتى انه قيل إن عدم ادخال تغييرات في وزارة الخارجية، لم يكن الهدف منه إبقاء ابناء الفيصل، وإنما لإدارة السياسة الخارجية من القصر مباشرة، ربطا بالوضع الصحي لوزير الخارجية الحالي سعود الفيصل. ومن المفيد هنا التوقف عند قول دبلوماسيين اميركيين ان سفير آل سعود في واشنطن عادل الجبير، يتواصل مع القصر مباشرة، ويرسل تقريرا موجزا اخر النهار الى مكتب سعود الفيصل، علما ان الذين يتابعون الاتصالات هذه الايام بشأن العدوان على اليمن، من سياسيين ودبلوماسيين وشخصيات عربية، يتلمسون بقوة الاختلافات في الرأي والتقدير بين افراد المؤسسة الحاكمة.

في الجانب الاخر، هناك المشكلة المتفاقمة حول دور ونفوذ التيار السلفي بجانبيه، الدعوي والجهادي. قبل نحو سنة ونصف سنة، جرى الحديث عن نقاش بين مشايخ من التيار الدعوي يركز على ضرورة رفع مستوى الخطاب والتعبئة على اساس ديني لمواجهة النفوذ المضاد، سواء من جانب التيار الجهادي او من جانب الاعداء في الخارج، وهم في هذه الحالة يتحدثون عن ايران والشيعة. وقد وصل الامر بعدد غير قليل من هؤلاء ان اعدوا رسالة الى الملك، ثم عقدت اجتماعات صرفت على اثرها موازنات ضخمة لاعادة تأهيل من يتولى المنابر، إضافة إلى المدارس الدينية، وان كان هاجس الحكم يومها دفع الجمهور الى التقيد بمبدأ «طاعة ولي الامر».

في المقابل، كان التيار الجهادي يشعر بان آل سعود صاروا عقبة امام مشروعه التوسعي. ويدرك هذا التيار ان نجاحه في احتلال مواقع نفوذ خارج الجزيرة لن تكتمل شرعيته قبل الوصول الى بلاد الحرمين، وهو امر تعزز من خلال حضور عشرات الالاف من هؤلاء داخل بلاد الجزيرة وبالقرب منها. وما شن الحرب الدموية ضد هؤلاء من جانب سلطة ال سعود، الا وجه من وجوه المواجهة. حتى إن العائلة اضطرت الى عقد صفقات مع قسم كبير منهم عندما ارسلتهم للموت خارج الجزيرة، لكن الخشية عادت للتعاظم مع الوقت، وبات الحكم يشعر بانه في مواجهة خصم اشد قساوة، واكثر نفوذا وتأثيرا وحظوة من كل الخصوم الاخرين. وليس خافيا على احد، ان آل سعود عندما يتحدثون عن الخطر في الجنوب، فهم يعلنون العداء للحوثيين والاخرين، لكن عينهم على وقف تمدد تنظيم «القاعدة في جزيرة العرب» الذين يتخذون من بعض مناطق جنوب اليمن مقرا رئيسيا لهم.

وجاء لآل سعود من يحرك لهم هذه الهواجس، ويقترح عليهم، او يجعلهم يكتشفون وحدهم، ان احد اشكال المواجهة، سواء للمشكلات الداخلية العائلية او السياسية او مع التيار الديني، يتمثل في خلق عصبية او معركة ترسم معالم هوية وطنية.

اللافت انه مع بدء العدوان على اليمن، ادارت حكومة آل سعود الماكينة الاعلامية التي جعلت المواطنين يتصرفون كانهم امام معركة وطنية. وهم في الحقيقة نجحوا خلال السنوات الماضية في اشاعة المناخ المؤسس لاعتبار ايران هي العدو، كما اظهرت اتجاهات الرأي العام في الايام الاولى للعدوان انهم نجحوا في خلق عصبية جعلت من لديه اسئلة عن العدوان يبتلع لسانه خوفا من العموم وليس من السلطات فقط. حتى انه لم تخرج الى الان اصوات جدية داخل الاطار المعلن، حول ما حققته هذه الحرب المجنونة، وان كانت مواقع التواصل الاجتماعي تحفل بالاسئلة المباشرة عن الانجازات. وهو الامر الذي يعقّد المسألة اكثر، وربما يدفع الحاكم الى المزيد من التهور في اليمن وخارجه بغية تحقيق اي انجاز يعود به الى اهله، اولئك الذين صدقوه، وبايعوه ودعموه بجد في هذه الحفلة من الجنون.

ومع ذلك، فان الواقعة الكبرى اتية من حيث يعرف هؤلاء. عندما يكتشفون سريعا ان العدوان لم يحقق النتائج المرجوة، وان من ظنوه حليفا او خادما عندهم تركهم وقت الحقيقة. وان الغرب نفسه يضيق ذرعا بهم وبافكارهم، وان الحقيقة الوحيدة امامهم، هي التغيير الداخلي الواسع، ومتى مارس هؤلاء العناد اياه، فستكون الجزيرة في مواجهة حالة من الفوضى المتراكمة قبل حصول الانفجار الكبير، الذي يفتح الباب امام مهمة خلق هوية وطنية حقيقية.