تؤشر التطورات الدولية والإقليمية الأخيرة إلى أن زمن الهيمنة الأميركية على العالم قد أفل، وأن العالم يسير بخطى حثيثة باتجاه تبلور نظام عالمي جديد يكرس التعددية القطبية النابعة من توازن القوى العالمي الجديد.

وتتمثل هذه التطورات بالآتي:

التطور الأول: الاتفاق ـ الإطار النووي بين إيران ومجموعة الخمسة زائد واحدا والذي كرس الاعتراف بإيران دولة نووية بعدما كان الغرب يسعى إلى حرمانها من حق امتلاك برنامج نووي سلمي، وهذا الاعتراف يأتي بعدما وصلت الدول الغربية، وفي المقدمة الولايات المتحدة الأميركية، إلى قناعة بفشل سياسة العقوبات لمنع إيران من تطوير قدراتها النووية، وخطورة اللجوء إلى الخيار العسكري على المصالح الأميركية وأمن إسرائيل، وكلفته المادية الكبيرة، عدا عن أنه لن يتمكن سوى من تأخير البرنامج النووي الإيراني سنة واحدة.

غير أن مثل هذا الاتفاق، الذي يقضي أيضا برفع العقوبات عن إيران، مقابل قبولها بالرقابة الدولية على برنامجها لضمان عدم تحويله إلى برنامج للتسلح، يعبر عن تسوية تعكس توازن القوى.

لكن من الواضح أن هذه التسوية تشكل إقراراً أميركيا بالفشل في سياسة الاحتواء المزدوج التي اعتمدتها مع طهران منذ سقوط نظام الشاه في أعقاب الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الراحل الخميني, مما يعني عمليا تراجعا في مكانة أميركا الدولية وتسليما بفشل خطتها لتعويم مشروع هيمنتها على القرار الدولي ومعاقبة الدول الرافضة للهيمنة الأميركية الأحادية، والداعية إلى إقامة نظام متعدد الأقطاب واحترام ميثاق الأمم المتحدة، وتكريس، رويداً رويداً، التعددية الدولية المحمية بتوازن القوى بين القوى المتصادمة عالمياً وإقليمياً.

وهذا التطور ستكون له تداعيات على المستويين الإقليمي والدولي تعزز موقف الدول المستقلة غير التابعة للولايات المتحدة.

التطور الثاني: قرار إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما بالانفتاح على كوبا والتوقف عن مواصلة فرض سياسة الحصار عليها، وهو قرار يأتي بعد أن عجزت واشنطن على مدى خمسين عاما من اخضاع كوبا، ونجاح تحالف دول أميركا الجنوبية الخارجة من فلك التبعية لأميركا في فك الحصار عن كوبا، وبناء منظمة للتعاون الاقتصادي فيما بينها (الألبا).

التطور الثالث: إعلان اوباما انتهاء عصر التدخل في شؤون دول أميركا الجنوبية وذلك خلال قمة جمعت رؤساء دول الأميركيتين الشمالية والجنوبية، وحصول لقاءات تاريخية بين الرئيس الأميركي وكل من الرئيس الكوبي كاسترو والرئيس الفنزويلي مادورا.

التطور الرابع: قرار العديد من الدول الأوروبية، مثل بريطانيا والمانيا وايطاليا وغيرها، بالانضمام إلى البنك الآسيوي للاستثمار الذي أسسته الصين وشاركت فيه عشرات الدول، هذا البنك يشكل منافساً كبيراً للبنك والصندوق الدولي الذي يخضع للسيطرة الأميركية، ويؤشر إلى أن قدرة الولايات المتحدة على الاستمرار في الهيمنة على السياسات المالية الدولية والتحكم بشروط إقراض الدول لأغراض التنمية لم تعد ممكنة، وهو ما دفع دول حليفة لأميركا إلى البحث عن مصالحها مع الصين التي باتت، حسب كل المعطيات الاقتصادية، الدولة الأقوى اقتصاديا في العالم، وفق مؤشرات التطور والنمو التي تسجل على كافة المستويات.

التطور الخامس: دخول الولايات المتحدة بداية مرحلة فقدان قدرتها العسكرية المتفوقة، نتيجة خفض موازناتها على الأبحاث المعنية بتطوير البرامج العسكرية، على خلفية تفاقم أزمتها الاقتصادية والمالية، واشتداد المنافسة الدولية، وخصوصا من قبل روسيا والصين.

ومنذ عام 2005، خفضت وزارة الدفاع الأميركية الإنفاق على البحث والتطوير بنسبة 22 في المائة، وفي عام 2013، وكجزء من صفقة لتفادي المواجهة بشأن تجاوز عتبة سقف الديون، أمر الكونغرس الأميركي بتخفيضات تلقائية في الإنفاق بلغت نحو 1.2 تريليون دولار، وأدى ذلك على خفض الإنفاق على العديد من البرامج، بما في ذلك المبادرات البحثية الدفاعية، ما دفع إدارة الرئيس أوباما إلى القول بان ذلك سيكون شديد «الإضرار بالأمن القومي». وفي حال استمر ذلك فانه سيعرض الابداع والقدرة التنافسية الأميركية لمزيد من التراجع .

كما تعاني الولايات المتحدة من تفريغ قاعدتها الصناعية الدفاعية، فبسبب المنافسة المتزايدة من قِبَل الصين وغيرها من الاقتصادات الناشئة الكبيرة تآكلت قدرات التصنيع الأميركية، الأمر الذي يهدد قدرة أميركا على إنتاج المنصات الدفاعية الأكثر تطوراً على المستوى التكنولوجي.

ونتيجة تنامي المنافسة الأجنبية في سوق الأسلحة الدولية، باتت شركات التصنيع الأميركية تجد نفسها معرضة للمنافسة على نحو متزايد في مجالات كانت تهيمن عليها بما في ذلك المنصات الجوية بدون طيار، والمراقبة الاستخباراتية والاستطلاع، والصواريخ، والأقمار الصناعية، مع اكتساب الشركات المنافسة المنخفضة التكاليف لحصة متزايدة في السوق، وفي عام 2013، تجاوزت صادرات السلاح الروسية نظيراتها الأميركية بأكثر من 2 مليار دولار، الأمر الذي يحصل لأول مرة.

انطلاقا من قراءة متأنية لهذه التطورات الآنفة الذكر يمكن تسجيل جملة من الاستنتاجات:

أولا: إن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على استعادة هيمنتها على العالم، نتيجة تراجع قدراتها الاقتصادية والمالية، والنابعة أصلا من التقلص الكبير في حجم حصتها من الناتج العالمي من نحو 60 بالمئة، في العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، إلى ما دون الـ17 بالمئة حاليا، وهذا التراجع ليس آنيا بل دائما لأنه ناتج عن تبدل استراتيجي في واقع الاقتصادات العالمية تمثل في انتقال مركز الثقل في قوة الاقتصاد العالمي من الغرب إلى الشرق، ما أدى إلى كسر هيمنة الدول الغربية على الأسواق العالمية، وتراجع معدلات نموها.

ثانياً: ان تراجع القدرات الاقتصادية لأميركا وعدم استطاعتها الاحتفاظ بهيمنتها وتسّيدها على القرار الدولي يدفعها إلى الاتجاه نحو التكيّف مع هذا الواقع الجديد وبالتالي انتهاج سياسات براغماتية للحد من حجم هذا التراجع في مكانتها العالمية.

ثالثاً: إن نظاماً عالمياً جديداً يسير باتجاه التشكل على خلفية التحولات الحاصلة في موازين القوى الدولية والإقليمية، اقتصادياً وعسكرياً، وهذا النظام الجديد سيعبر عن هذه الموازين.

رابعاً: إن الحروب الاستعمارية لم يعد الاقدام عليها سهلاً، خصوصاً بعد فشلها في العراق وأفغانستان، وبعدما أصبحت كلفتها مرتفعة كثيرا وفوق قدرات الدول الغربية التي باتت تئن من الديون والعجز في موازناتها، وتعاني من الركود الاقتصادي وازدياد أعداد العاطلين من العمل والاضطراب الاجتماعي نتيجة لذلك.

خامساً: هذه التطورات سوف تؤدي إلى خلق مناخات ايجابية في مصلحة الشعوب التي تكافح للتحرر من الاحتلال والتبعية وتسعى إلى نيل استقلالها وتحقيق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، وكذلك سوف تؤدي إلى توافر بيئة دولية وإقليمية تساعد في إيجاد تسويات للصراعات المحتدمة في أكثر من ساحة، انطلاقا من موازين القوى المحلية، ولهذا فإن حصول مثل هذه التسويات سيحتاج إلى وقت، ريثما يجري الإقرار بموازين القوى المحلية، والتسليم بعدم القدرة على تغييرها بواسطة الحروب بالوكالة.