يتهيّأ لبنان وسوريا لمعركة الفصل على محور عرسال-القلمون وامتدادًا نحو ريف دمشق بمحاذاة الحدود اللبنانيّة-السوريّة. تنطلق التهيئة من مجموعة عناصر ظهرت، أهمّها أنّ الاستقرار الداخليّ اللبنانيّ المنشود ليس له أن يتحقّق جذريًّا وفعليًّا إن لم يرسُ الحسم في تلك البقعة بالقضاء على الإرهاب التكفيريّ من جذوره، وخلاف ذلك، البحث في المخارج السياسيّة والدستوريّة على المستوى الداخليّ عقيم بكلّ ما للكلمة من معنى.

يخطئ كلّ من يظنّ أنّ العامل التكفيريّ الرابض على تلالنا في البقاع الشماليّ لن يكون مؤثّرًا. كلّ المصطلحات الداخليّة في الأدبيات الدائرة في الخطاب السياسيّ بين الأخذ والردّ، يتأتى بعضها من هذا التأثير. ويأتي على سبيل المثال لا الحصر كلام بيئة مذهبيّة وهي السنيّة، بأنّها لم تعد متبنيّة للخيارات التكفيريّة وهي ترنو نحو الاعتدال، وبعضها قال بأنّه لم يتبنّاها. غير أن مسرى الأحداث لسنتين خلتا أو أكثر، أثبتت العكس تمامًا بالتجسيد التاّم، وبرأي كثيرين من المتابعين، فإن مسألة الإسلاميين وتمردهم على السلطة في سجن رومية، وما تبعها من تداعيات واضحة، وبخاصّة ذلك الاعتصام من أمام منزل وزير العدل أشرف ريفي، بالإضافة إلى الهجوم المركّز على وزير الداخليّة نهاد المشنوق من هؤلاء ومن بعض السياسيين الطرابلسيين، تقتضي وبحسب مصدر سياسيّ مسؤول، ضرورة حسم الخريطة السياسيّة والأمنية في لبنان انطلاقًا من الاستعداد لمعركة عرسال-القلمون. وتشير بعض المعلومات التي تم تداولها في الآونة الأخيرة، بأنّ الحراك المتمرّد في سجن رومية جاء على خلفيّة ​عاصفة الحزم​، ويعتقد من تداول بتلك المعلومات على دقتها، بأنّ الإسلاميين في هذا السجن هم قنابل موقوتة وأوراق مستهلكة تتحرّك وفقًا لمعطيات تكشف لهم من جهات قد تكون واضحة، فتحرّكهم من داخل السجن. وبرأي المتابعين يجب ضبط الأمن ليس على السجناء ولكن على بعض من يتولّى حراسة السجناء. وتسترسل بعض الأوساط بالتحليل من خلال ربط التمرّد بآفاقه وأهدافه "بعاصفة الحزم"، والتي تأججت عواصف كلاميّة في الداخل اللبنانيّ الهشّ والمعطوب.

ثمّة قناعة لا يمكن الحياد عنها من خلال تسلسل الأحداث، بأنّ علة العلل في الواقع السياسيّ والأمني الراهن ليست الانتخابات الرئاسيّة على الرغم من أهميّتها القصوى. والفراغ في الرئاسة خطير للغاية، وهو نتيجة وليس سببًا. هو نتيجة الصراع في المثلّث المترامي الأطراف والملتهب ما بين سوريا والعراق واليمن. إذ هو صراع في هذا المثلّث وفيه وعليه. علّة العلل، وبحسب الاختبارات والتجارب الحديثة، قائمة في التنظيمات التكفيريّة والمتطرّفة للغاية، العامدة على قذف المنطقة ومنها لبنان للفراغ والخواء، أن تجعله من ضمن مشروعها الشرائعيّ المغلق، المستند إلى الفكر الوهابيّ في التفسير والشرح، وهو بانعطافهم قد أمسى نمطًا عقيديًّا-حياتيًّا، باتجاهاته السياسيّة ومسارّاته الأمنيّة ومنعطفاته الاقتصاديّة-الاجتماعيّة. تلك التنظيمات تعيش في ظلّ الصراع الأكبر، تُستثمر كما تَستَثمِر، لا يمكن القول بأنّها حالة استثمار للقوى الكبرى اللاّعبة، بقدر ما هي تقتات بدورها من الخبز الذي يرمى لها فيحلو لها الاستثمار في المدى.

من هنا، المسألة في لبنان لم تعد تحتمل التسويف، كما لم تعد تحتمل التأجيل المتلاشي والباطل لحسم مسألة الإرهاب التكفيريّ وعلاقته بالمكونات الطائفيّة سواءً سلبًا أو إيجابًا، ومن ثمّ تأثيره على العناوين السياسيّة والاستحقاقات المصيريّة في لبنان وديمومة مؤسساته.

هل تملك السلطة السياسيّة المتمثّلة بمجلس الوزراء القدرة على حسم تلك المسألة، وتاليًا، هل ثمّة قناعة تكوّنت في عقل القوى الكبرى المؤثّرة في لبنان بضرورة الحسم السريع؟ يبدو أن لبنان كما حاول بعضهم الإيضاح، قد يكون تفصيلاً صغيرًا في قراءة أميركيّة-روسيّة مشتركة. و"قد" في اللغة العربيّة تعرب حرف تقليل. لم يعد لبنان البتّة تفصيلاً صغيرًا، لأسباب تتعلّق بموقعه، وفي ذهن كثيرين لا يزال شرق أوسطًا صغيرًا، بدليل بسيط وهو مسألة الفراغ في موقع الرئاسة، والتي أمست جزءًا من صراع كبير. كلّ عنوان في الحراك السياسيّ اللبنانيّ جزء من الصراع الأكبر.

وفي هذا السياق، تشير بعض الرؤى المتصلة، بأنّ الخيارات وبعد التغييرات الجذرية في قراءة الأميركيين للمنطقة، ستكون أكثر وضوحًا. استند الوضوح عمومًا إلى التقارب النوعيّ الكبير بين الأميركيين والإيرانيين من خلال الاتفاق بين الطرفين، كاشفًا إياه الحديث الأخير للرئيس الأميركي باراك أوباما، وفيه أوضح قراءته العلنيّة للعلاقة بين الخليج وعلى رأسه المملكة العربيّة السعوديّة وإيران في العديد من السلوكيات المرتبطة بالداخل السعوديّ في علاقة النظام بشعبه وتأمين مستلزمات الحياة الكريمة، والأهم من كلّ ذلك قوله إيران ليست عدوّة لكم. سيكون لذلك انعكاس في الجيّز اللبنانيّ، إنطلاقًا من انعكاسه في حسم الخيارات الجزئيّة والكليّة في تأثير القوى التكفيريّة على مجريات الأحداث. يعتبر بعضهم من المراقبين بأنّ سياق حسم الخيارات، يتطلّب بالتشخيص الدقيق البدء وبخاصّة في الحدود اللبنانيّة-السوريّة التوغّل في القضاء على الإرهاب هذا من جذوره. المسائل الصغرى في لبنان تتماهى بالمسائل الكبرى هذا إذا لم تكن لتنطلق منها، ولبنان مسرح دائم لانبثاثها. وبالعودة إلى مثل سجن روميه فإنّ المسجونين الإسلاميين ما تحرّكوا قبل عاصفة الحزم، تحرّكوا وكما تمّت الإشارة تحت تأثير عاصفة الحزم في اليمن، وكانوا في السابق يتحرّكون وفقًا لتأثيرات الأحداث على الحدود وفي طرابلس وعرسال وعكار وسواها، وما كان ذلك بعيدًا عن مفهموم الحرب في سوريا وعليها، وشهوة الإسلاميين التكفيريين في زرع إماراتهم في مدى الشام، وتترجم العبارة بسوريا ولبنان.

ليس لبنان بهذا المعنى تفصيلا صغيرا في خيارات كبرى. بل هو جزء كبير وجوهري كما دلّت الأحداث الأخيرة على أرضه. فلا يمكن الإنكار بأن الأحداث التي انفجرت منذ ما بعد 2005 في المنطقة بعد تورّم عناوينها وتكاوينها، لم تولد من رحم اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وفي الأساس إن اغتيال الرجل هدف لانفجار المنطقة من العراق إلى سوريا ولبنان بدءًا بتلك العناوين المتورّمة وقد أخذت إلى الانفجار بهذا المعنى رويدًا رويدًا.

يزيّن لكثيرين بأنّ على لبنان أن يستفيد من كلّ تقارب مضمونه واضح وآفاقه صافية. المضامين في المنطقة تغيّرت، مع بدء احتراق أوراق كثيرة من سوريا إلى اليمن، بأطرها الاستراتيجيّة. أمام ذلك تشير مصادر دبلوماسيّة بأنّ على لبنان أن يفهم ويدرك معنى التبدلات الجذرية في السياسة الأميركية تجاه إيران والمنطقة بصورة عامة، أن يتحسّس بعض الأفرقاء السياسيين بأنّ رهاناتهم حول سقوط الأسد جوفاء، إذ هو جزء كبير من الحل السياسيّ في سوريا. ولذلك على لبنان أن ينطلق باتجاه إرساء حلّ سياسيّ يستفيد من تلك العناوين، وهو أعطي الضوء الأخضر لترسيخه. والترسيخ ينطلق من العناوين التالية:

-إنهاء معركة عرسال القلمون، وإنهاء العملية لا تستقر إلاّ بتواصل واضح بين سوريا ولبنان.

-استكمال الحوار بين كلّ الأطراف السياسيّة وبخاصّة بين تيار المستقبل وحزب الله وهو ضروريّ من شأنه تسهيل الحلول بمرونة وإحساس بالمسؤوليّة.

الشروع بعمليّة الانتخابات الرئاسيّة، وانتخاب شخصيّة سياسيّة تطمئن المسيحيين وتنهي مرحلة الشغور في الرئاسة وتعيد الاعتبار إلى سيرورة المؤسسات وديمومتها.