إلى جانب إسرائيل المستفيدة من التوتر المذهبي في المنطقة، يبدو أن تركيا هي الرابح الأكبر من تصعيد الخلافات بين السعودية و​إيران​ في الساحات المشتعلة، لا سيما في اليمن الذي أظهر أن إنفجار الأوضاع قد يحصل في أي لحظة.

وفي ظل الهجمة السعودية على حركة "أنصار الله" في اليمن والإنشغال الدولي والإقليمي بها، كانت تركيا تستفيد من هذا الوقت الضائع لتحقيق بعض الأهداف الإستراتيجية على الساحة السورية، ومن المؤكد أنها إستغلت على أفضل وجه الواقع الجديد، الذي فرض على مختلف اللاعبين السعي إلى التقرب منها.

"الدلال" الإقليمي

من وجهة نظر مصادر مراقبة، وجدت أنقرة، الفريق الرابع في النظام الإقليمي الذي يتكون بعد تل أبيب وطهران والرياض، نفسها محل ترحيب من قبل الجميع، بعد أن تعرضت لنكسة على اثر سقوط نظام "الإخوان المسلمين" في مصر، في ظل المفاوضات الشقة لتوقيع الإتفاق النووي الإيراني بين الجمهورية الإسلامية والقوى الكبرى بشكل نهائي بعد توقيع إتفاق الإطار.

الجانب الإيراني لم يتردد في إستقبال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بعد أيام من هجومه عليه على خلفية الأحداث اليمنية، في حين أرسل الجانب السعودي رجله الأقوى على الصعيد الأمني ولي ولي العهد وزير الداخلية محمد بن نايف إلى تركيا، بعد قطيعة نجمت عن الصراع مع العهد القديم أيام الملك عبدالله بن عبد العزيز بسبب الأحداث المصرية.

وفي حين تفضل طهران عدم توجيه الإتهامات إلى أنقرة، بالمستوى نفسه الذي توجهه هذه الأيام إلى الرياض، لا يمكن تجاهل الضغط الأميركي على السعودية للتنسيق مع تركيا، خصوصاً أن الهدف الأساس من وراء ذلك إضعاف النفوذ الإيراني قبل الذهاب إلى توقيع الإتفاق معه أواخر شهر حزيران المقبل.

كيف استغلت تركيا الأمر؟

تركيا التي تواجه إستحقاقات مهمة على المستوى الداخلي، تلاحظ المصادر المراقبة، عبر "النشرة"، أنها قرأت الواقع الجديد بنجاح، فهي لم تدخل بشكل مباشر إلى الحلبة اليمنية كما كانت تشتهي السعودية، لكنها سلفتها موقفاً داعماً لعملية "​عاصفة الحزم​" في السياسة، وفي المقابل وجهت بعض الرسائل إلى إيران بدعمها الحل السلمي الذي يكرس دور حركة "أنصار الله".

النجاح الأبرز، الذي تؤكد عليه المصادر المراقبة، ينبع من تحقيق بعض الأهداف المتعلقة بالأمن القومي التركي على الساحة السورية، وبشكل أساسي من خلال توجيه ضربة مهمة عبر فتح جبهة إدلب، التي نجحت الفصائل المدعومة من قبل أنقرة بالسيطرة عليها، والذي جاء بمباركة ودعم سعودي، تمثل في مشاركة الفصائل والكتائب التي تدور في فلك الرياض إلى جانب تلك التي تدور في فلك أنقرة في المعركة، وكان ما اصطلح على تسميته بالتحالف "السلفي-الإخواني"، وكان مؤشره الأبرز زيارة رجل الإستخبارات السعودية الأول على الساحة السورية زهران علوش الأراضي التركية، مع العلم أن قائد "جيش الإسلام" أبعد فعلياً عن غرفة العمليات التي تقود هذه المعركة من غرفة عمليات مقرها الأراضي التركية.

وفي حين يبدو دور واشنطن واضحاً من خلال الإنفتاح السعودي على "الإخوان"، أي تركيا بشكل أساسي، تدرك الرياض جيداً أن ما يتحقق يصب في مصلحة أنقرة أولاً، لكن موافقتها جاءت كون المتضرر منه طهران ودمشق، في الوقت الذي تعتبر فيه إيران أن مواجهة النفوذ السعودي أولوية على النفوذ التركي في هذه المرحلة.

ماذا بعد إشتعال الشمال السوري؟

ما يجري على الأرض السورية، ليس بعيداً عما حصل على الأرض العراقية، نظرية الأقاليم الأميركية هي العامل الأساسي في التركيبة القديمة الجديدة، وعبّر عنه بشكل واضح نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، قبل مدة، من خلال قوله صراحة: "نريد عراقاً فدرالياً قوياً"، الأمر الذي وجد تجاوباً معه من قبل بعض القوى السياسية العراقية التي روجت لنظرية تسليم المناطق المحررة من تنظيم "داعش" إلى أهلها، نظراً إلى الفشل في إنتاج مشروع وطني جامع حتى الآن.

إنطلاقاً من ذلك، تعتبر المصادر المراقبة أن من الممكن قراءة ما يحصل على الأرض السورية بشكل أوضح، إلى جانب الإقليم الكردي الذي تم العمل عليه من خلال دعم قوات "حماية الشعب"، في معارك كوباني والحسكة، يأتي السعي إلى بناء إقليم في الشمال السوري يحظى بالغطاء التركي، الذي يمكن الإستفادة منه من جانب أنقرة سياسياً لاحقاً، من خلال الدور الذي يحظى به دائماً من ينجح في السيطرة على الأرض عسكرياً، لتتكرس نظرية: "التقسيم السياسي بعد التقسيم العسكري".

الخلاصة الأساسية، تكمن بأن أنقرة نجحت في إستغلال هذا الواقع الإقليمي المتوتر، في حين تضررت طهران ودمشق منه، من دون أن يعني ذلك أن الرياض حققت أي نجاح عملي، لكن واشنطن تبدو راضية عن مسار الأمور الذي يجري كما تشتهي، لكن ماذا بعد ذلك؟

من المؤكد، بحسب ما تعتبر المصادر المراقبة، أن المحور السوري والإيراني لن يقبل بالخسارة التي تعرض لها، وبالتالي هو سيسعى قريباً إلى إستعادة زمام المبادرة، وذلك سيكون مرتبطاً إلى حد بعيد بمسار المفاوضات الأميركية الإيرانية، والذي من المفترض أن يكون له تداعيات على المستوى السياسي والأمني، وما يهم طهران هو الإعتراف بأوراق قوتها في سوريا والعراق ولبنان وليس أي مكان آخر، ما يعني الصدام مع الدور التركي في سوريا والعراق لا مع السعودي الذي يريد اليوم ضمان أمن الخليج قبل أي شيء آخر.

ما تقدم، يعني أن التسوية السعودية الإيرانية، بعد أخذ ساحات النفوذ والمصالح بالحسبان، أقرب من التسوية التركية الإيرانية، والجانب الأميركي الذي يسعى إلى طمأنة الدول الخليجية دائماً بضمان أمنها يدرك هذا الأمر جيداً، لكن يبقى على الرياض وطهران أن يتنبها إلى ذلك.

من حيث المبدأ، يبدو أن أنقرة حتى ذلك الوقت سعيدة بما يجري، وتتمنى أن يستمر الإشتباك الإيراني السعودي طويلاً، فهي اللاعب الذي يحظى بـ"الدلال"، لكن عندما تحين ساعة الحوار السعودي الإيراني، بالرعاية الأميركية طبعاً، ستدفع الثمن غالياً، إلا بحال الفشل بالوصول إلى إتفاق أميركي إيراني في الفترة المقبلة، فهذا يعني أن واشنطن عبر حليفتها التركية نجحت في توجيه ضربة إلى طهران بأقل الخسائر الممكنة، إلا أن المحور السوري الإيراني من الطبيعي أن يعمد في الفترة المقبلة إلى السعي لقلب الطاولة، خصوصاً أن لديه من أوراق القوة ما يكفي لإرباك تركيا داخلياً.

في المحصلة، تبدو المنطقة في الوقت الراهن أمام تطورات كبيرة ومهمة، هدفها الأساسي بناء نظام إقليمي جديد يقوم على الإعتراف بالنفوذ الإيراني، بعد شبه الإعتراف العالمي بأن النظام الدولي بات يقوم على تعدد الأقطاب.