"طفح الكيل وبلغ السيل الزبى"...

تكاد هذه العبارات المقتضبة والمعبّرة في آن تكون كافية لتفسير "سرّ" فكّ رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون لـ"صيامه" عن الكلام، بل عودته للهجة المرتفعة التي لطالما طبعت شخصيته، قبل أن يفرض "الطموح الرئاسي" تعديلاتٍ، ولو مؤقتة، فيها..

وفي حين ربط كثيرون "صرخة" عون بـ"الرسالة" التي أوصلها إليه رئيس كتلة "المستقبل" فؤاد السنيورة قبل أيام بقوله أنّ لا نصيب له على الإطلاق في رئاسة الجمهورية، فإنّ المعنيّين يذهبون للقول أنّ الجنرال أراد بانتفاضته هذه ضرب سلسلة "عصافير" بحجرٍ واحدٍ..

ساعة الحقيقة تقترب..

هي المرّة الأولى التي يرفع فيها العماد ميشال عون من سقف خطابه منذ فترةٍ طويلةٍ، انتهج فيها سياسة "انفتاحية" إلى أبعد الحدود ربطها كثيرون بطموحه المشروع بالتوافق عليه لرئاسة الجمهورية. ولعلّ خير دليلٍ على ذلك، بحسب ما يرى المتابعون، أنّ خطاب "الجنرال" في ذكرى الرابع عشر من آذار خلت من أيّ "سهامٍ مباشرة" باتجاه أحد، لا من الحلفاء ولا من الخصوم، باستثناء الرئيس السابق ميشال سليمان، علمًا أنّ هذه المناسبة بالتحديد كانت تزخر دائماً بالمواقف التصعيدية والنارية لـ"التيار الوطني الحر".

رغم كلّ ذلك، فإنّ مصادر سياسية مطلعة تؤكد أنّ خروج "الجنرال" عن صمته لم يكن مفاجئًا بالمُطلق، بل كان طبيعيًا ومنطقيًا، وكانت هذه "اللحظة" متوقعة، خصوصًا بعدما دنت "ساعة الحقيقة"، انطلاقاً من استحقاق التمديد للقادة العسكريين والأمنيين الذي بات قريبًا، والذي وصل إلى مسامع عون وغيره أنه يُطبَخ على نارٍ حامية، وأنه بدأ يسلك طريقه التنفيذي والعملي، دون أن يتأثر بتهديده ووعيده. إزاء ذلك، لم يكن ممكنًا لعون الصمت وتجاهل هذه المعطيات، خصوصًا بعدما حوّل معركة التعيينات الأمنية إلى معركة "حياة أو موت" بكلّ ما للكلمة من معنى، علمًا أنّ "الجنرال" بات هو يسائل نفسه عن شعار "التغيير والإصلاح" الذي يرفعه، إذا كان سيغضّ الطرف في كلّ مرّة عن الانتهاكات الفادحة للدستور والقانون، التي تُمرَّر بالإجماع، ومن دون حدّ أدنى من الاكتراث والتقدير.

رسائل إلى الحلفاء..

من هذه الزاوية بالتحديد، يظهر أول "العصافير" التي أراد عون ضربها، بحسب المصادر التي تعرب عن تقديرها بأنّهم من "الحلفاء" و"حلفاء الحلفاء" قبل غيرهم. "من يتركني أتركه"، قال "الجنرال"، لعلّ الرسالة تصل إلى من يجب أن تصل إليه.

"حزب الله" ليس محيَّدًا من هذه الرسالة، تقول المصادر، وإن كانت بعض المعلومات تشير إلى أنه سيواكب العماد عون في موقفه، أيًا كان، وسيقف إلى جانبه طالما أنه "يضمن" أنّ الحكومة ستبقى "محصّنة" ولن "تطير"، باعتبارها "الضمانة" الوحيدة الباقية في ظلّ تعميم نموذج "الشلل" و"الفراغ" على كلّ المؤسسات، التي باتت إما منهارة أو في طور الانهيار.

ومثل "حزب الله"، فإنّ الرسالة موجّهة أيضًا إلى كلّ من حزب "الطاشناق" وتيار "المردة"، وهما المنخرطان في إطار تكتل "التغيير والإصلاح"، إلا أنّهما لا يتوانيان عن "التمايز" عن "التيار الوطني الحر" حتى في الملفات "الحسّاسة" بالنسبة له، ومنها التعيينات الأمنية، ولا يخفى على أحد "امتعاض" العونيّين مثلاً من الكلام المتكرّر الذي يدلي به النائب سليمان فرنجية لجهة تفضيله "التمديد" على "الفراغ"، وفيه إشارة ضمنية واضحة بتشجيعه التمديد لقائد الجيش العماد جان قهوجي، وإن لم يقلها بشكلٍ مباشر.

أما الرسالة الأساسية في هذا السياق، فهي موجّهة إلى رئيس المجلس النيابي نبيه بري، الذي يبدو أنّ "التوتر" عاد ليطبع العلاقة بين الجانبين في هذه المرحلة، في ضوء "تحسّس" عون من خيارات بري وتنسيقه الدائم مع رئيس "اللقاء الديمقراطي" النائب وليد جنبلاط، من دون أيّ مراعاة لهواجس المسيحييين المحقة، وخصوصًا بعدما فتح "الأستاذ" النار على الكتل المسيحية، بما فيها كتلة عون، على خلفية مقاطعتها للجلسة التشريعية، علمًا أنّ المصادر تلاحظ أنّ بري عاد ليرطّب الأجواء مع "الجنرال" بحديثه الأخير عن "كلام جميل" سمعه من نواب "التيار" في هذا الصدد.

.. وإلى الخصوم!

تقرّ المصادر بأنّ ملف التمديد للقادة الأمنيين والعسكريين ليس وحده ما أخرج عون عن صيامه، وأعاده إلى ملعبه القديم الجديد. هي تقرّ بأنّ موقف رئيس "كتلة المستقبل" فؤاد السنيورة الأخير، والذي قال فيه أنّ "عون ما بيمشي كرئيس ولا يوجد بني آدم ممكن أن يمشّيه" شكّل "كلمة السرّ" على هذا الصعيد، بل بدا بمثابة "الضوء الأخضر" الذي سمح لعون برفع الصوت، وعدم المهادنة والمساومة.

صحيحٌ أنّ عون لم يكن يتوقع الكثير من حواره مع "تيار المستقبل" بقدر ما كان يتوقع عرقلة أيّ تقدّم على هذا الخط من قبل جناح السنيورة بالذات، وصحيحٌ أنّه لا يبني كثيراً على كلام السنيورة بل ينتظر توضيحًا رسميًا من قبل رئيس التيار سعد الحريري، خصوصًا أنّ العلاقة كانت دائمًا مباشرة مع الأخير، ولم تكن يومًا تحتاج لوساطة من هذا أو ذاك، ولكنّ الأصحّ من كلّ ذلك، بحسب المصادر، أنّ عون قرأ في تصريح السنيورة وعدم نفيه أو نكرانه من قبل أحد "رسالة مبطنة" لم يجرؤ الحريري على إيصالها بنفسه، وهو الذي استبقها بتصريحٍ قال فيه أن "لا مشكلة مع التيار الوطني الحر".

من هنا، فإنّ خروج عون عن صمته كان رسالة واضحة أيضًا للخصوم، رسالة تؤكد أنّ الشخصية التوافقية التي انتهجها عون في الآونة الأخيرة عن قناعةٍ تامة لم تلغِ بأيّ شكلٍ من الأشكال شخصيته الصدامية التي تستطيع أن تفرض حضورها عند الحاجة، وبالتالي فإذا كان عون لا يهاب انعطافة "الحلفاء"، فهو بطبيعة الحال لن يهاب مشاعر "الخصوم"، الذين لم يراعوه أصلاً في يومٍ من الأيام، خصوصًا أنّ محيطين بـ"الجنرال" يعتقدون أنّ كلّ "التعاطف" الذي أبداه بعض الخصوم ينبع من عدائهم لـ"حزب الله"، وكان محاولةً لذرّ الرماد في العيون والإيحاء بأنّ "الجنرال" جاهزٌ لـ"الانقلاب" على حلفائه إذا ما تمّ التوافق عليه، وهو ما ليس واردًا في قاموس عون، كما تقول المصادر.

وليكن!

قد يقول قائل أنّ "الجنرال" لم يكن ليغيّر من استراتيجيته في هذه المرحلة، لو لم يبلَّغ رسميًا باستنفاد فرصه للوصول إلى قصر بعبدا، وأنه عندما شعر بأنّ "ورقته" احترقت بشكلٍ أو بآخر، قرّر أن يردّ على طريقته، فكان ما كان..

ولكن هنا من يسأل، من هذا الذي يبلّغ "الجنرال" بأنّ "لا نصيب له"؟ وإذا كان "تيار المستقبل" فعلاً صاحب هذا القول، كما قال السنيورة، فكيف يبرّر التيار حديثه الدائم عن أنه يسير بأيّ خيار يختاره المسيحيون؟

وأبعد من كلّ هذه الأسئلة، يسأل البعض عمّا إذا كان هذا الخطاب لا يزال "ساريًا" بعد "الانقلاب" الذي حصل في السعودية، ومن يدري، فقد يكون "الفيتو" السابق قد ذهب مع وزير الخارجية "السابق" سعود الفيصل!