سيقف المراقبون حتمًا أمام لوحة التغييرات الكبرى في السعوديّة. المسألة ليست بالتغييرات، ولكنّها قائمة أوّلاً بتلك المدّة القصيرة ما بين وفاة الملك عبدالله والتعيينات التي صدرت مع وصول الملك سلمان إلى سدّة الملوكيّة، وما حصل في التاسع والعشرين من شهر نيسان، والمضمون الراقد في جوفها والمنتظر أن يستفيق بإطار توظيفيّ واضح بالأطر المحليّة والعربيّة والإقليميّة ومن ثمّ الدوليّة- وبخاصّة الأميركيّة.

في الإطار المحليّ، إنّ التحوّل جاء في إطار عمليّة قيصريّة ومفاجئة، ويبدو أن العمليّة ما كانت سهلة على الإطلاق، بل عبّرت عن تباينات هائلة ومتراكمة تمحورت كلّها حول عاصفة العزم في اليمن، ولكنّها أيضًا أظهرت أنّ المملكة العربيّة السعوديّة تعيش خضّات بنيويّة تبدو معقّدة في خصوصيّة العلاقة المتوترّة بين أفراد الأسرة الحاكمة، أي بين السديريين الذين استعادوا وجودهم وسواهم. ولكنّها غير محصورة فقط بالنطاق العائليّ الحاكم، بل هناك علاقة يبدو أنّها غير سويّة بين تلك الأسرة وأفراد الشعب، لكون المملكة لم تنتهج نظامًا ديمقراطيًّا يسمح لأفراد الشعب بالتعبير الصحيح عن إرادته، ويسمح للمرأة بأن تقتحم الوجود هناك وتظلّ ذلك الوجه المضيء بالعمق السياسيّ والاقتصاديّ والثقافيّ والإنمائيّ. يذهب بعض المحللين المتخصّصين بشؤون الخليج، بأنّ الطاقم الذي حكم وبخاصّة في الآونة الأخيرة، تماهى بصورة عميقة مع الفكر الوهابيّ في الداخل والخارج، فأمسى ذلك مضرًّا جدًّا بمصالح المملكة على مختلف الأصعدة الداخليّة والخارجيّة، ممّا سيدفع باتجاه نقاش حام بين السلطة الجديدة والمؤسّسة الدينية في المملكة، قد يبلغ مبلغًا صداميًّا وتغييريًّا، على غرار النقاش في مصر بين الرئيس عبد الفتاح السيسي وشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيّب، حيث طالب الرئيس الأزهر بتغيير المناهج الإسلاميّة وطرائق تبليغها ودراستها، لتنفتح أكثر على مدى الحداثة وتتّجه إلى حماية الإسلام من الإسلاموفوبيا وينبلج الإسلام قرآنيًّا بامتياز، منفتحًا على الحضارات والأديان والقيم متمازجًا معها بحوار وطيد وسليم، يبطل مفاعيل إيغال الكفر التكفيريّ في النظام العالميّ أو الإقليميّ أو العربيّ في التأثّر والتأثير، وغالبًا ما يكون التأثير أقوى من التأثّر وقد بدا هذا واضحًا في الأحداث الأخيرة سواء في سوريا أو العراق أو لبنان، أو العمليات الانتحارية في أمكنة عديدة.

بدأ التغيير كما افاد المراقبون الضالعون، بتوتّر واضح بين الأمير مقرن وبين الأمير محمّد بن سلمان على خلفيّة حرب اليمن، تشابكت فيها الرؤى بسلبيّة واضحة ما لبثت أن اتسعت لتشمل جزءًا كبيرًا من العائلة المالكة مع الأمير طلال بن عبد العزيز وابنه الوليد. لكنّ اللافت من خلال ما رشح من معلومات من بعض الأوساط العالمة، أن عددًا لا يستهان من الأمراء وبخاصّة في مجلس البيعة رفضوا التوقيع على البيعة الجديدة، وهم على التوالي: الأمير أحمد بين عبد العزيز آل سعود، الأمير عبد الإله بن عبد العزيز آل سعود، الأمير ممدوح بن عبد العزيز آل سعود، الأمير متعب بن عبد العزيز آل سعود، الأمير طلال بن عبد العزيز آل سعود، الأمير بندر بن عبد العزيز آل سعود، الأمير تركي بن عبد العزيز آل سعود، الأمير عبد الرحمن بن عبد العزيز آل سعود، ومن الأحفاد الذين لم يوقّعوا أيضًا: الأمير مشعل بن سعود آل سعود، الأمير محمّد بن فهد آل سعود، الأمير محمّد بن سعد آل سعود. يظهر من تلك المعلومة الواضحة بأن معظم الأمراء وهم أبناء عبد العزيز لم يوافقوا هم وأبناؤهم على البيعة يضاف للأحفاد بصورة واضحة خالد بن سلطان آل سعود وإخوانه.

لكنّ بعض المعلومات التي ظهرت من الأوساط عينها، استغربت موافقة أميرين على البيعة هما مشعل بن عبد العزيز وخالد بن عبد العزيز بعكس اخيه الأمير متعب. وطرحت تلك الأوساط سؤالاً جوهريًّا: لماذا قرّر الأمير مقرن بن عبد العزيز التنازل والتخلّي عن ولاية العهدطوعًا؟ إذ لم يسبق لوليّ عهد سعوديّ أن تخلّى عن ولاية العهد طوعًا، وبخاصّة أنّ أعضاء البيعة أيّدوا في الأساس قرار الملك الراحل عبد الله تعيين مقرن وليًّا للعهد، معتبرين ومعلّلين بأنّ هذا القرار لا يجوز تعديله بأي حال من الأحوال، أو جعله عرضة للتأويل والتبديل.

يشي كلّ ذلك بأنّ التغيير لم يكن رضائيًّا على الإطلاق، لم ينطلق من تفاهم يرنو إلى ضخ المملكة بدم جديد، على الرغم من حاجة المملكة إلى ضخّ نوعيّ كبير وجريء، يقتحم العالم الجديد بوثبات مضيئة. أحد الخبراء اعتبر بأن ما حصل نتج من عاملين خارجيين:

-الأوّل: مرتبط بالإرادة الأميركيّة بتغيير جذريّ، توضّح على الأقل بالشكل حين زار الرئيس الأميركي باراك أوباما المملكة معزيًّا بالعاهل السعوديّ الراحل الملك عبد الله مصطحبًا زوجته معه. ليس هذا مألوفًا في الأدبيات السعوديّة منذ نشأة المملكة، لكنّ الرئيس الأميركيّ كسرها باصطحابه للسيدة الأولى، وقيل بأنّ اللقاء كان متوتّرًا للغاية. واستكمل ذلك بحديثه المباشر للسعوديين حين قال لهم بأنّ إيران ليست عدوتهم بل عدوّهم هو عدم التعاطي المرن مع الشعب بكلّ أطيافه والذي يؤدّي إلى ذلك الفكر التكفيريّ القاتل. ولعلّ ذلك ترجم بأن دفع الملك ليجري هذه القفزة المتماهية مع الإدارة الأميركيّة.

-الثاني: متمثّل بالحرب في اليمن وعليه. في الواقع، إنّ عبدالله بن نايف وعادل الجبير الذي خلف سعود الفيصل، وإعفاؤه يعتبر سابقة، هما من الصقور المتحمسين لعاصفة الحزم على اليمن. وهنا يطرح السؤال الدقيق، هل إنّ تعويم محمد بن سلمان، كوليّ وليّ العهد بهذا الشكل النافر بعد خلافه مع الأمير مقرن الرافض في الأساس وبحسب المعطيات المتكشفة من قلب المملكة، يعني أن المملكة ممعنة باستمرار حربها على اليمن وعلى سوريا، أو أنّ الاتجاه بات واضحًا، وبحسب الأجندة الأميركيّة لتسوية تسمح بحلّ سياسيّ في اليمن، ومن ثمّ يتّجه الحل عينه نحو سوريا والعراق؟

تحاول المملكة بهذا التغيير الجذريّ استرجاع أوراقها بعد احتراقها في سوريا واليمن ولبنان والعراق. ويقتضي المنطق الاعتراف بأنّ استرجاع الأوراق وتوطيدها يقتضي حراكًا تسوويًّا ينطلق من الداخل إلى الخارج، وبخاصّة مع العامل الإيرانيّ المتصاعد والمتفاعل في المثلّث الملتهب سوريا والعراق واليمن.

يبقى في النهاية، أنّ كلّ هذا الحراك سيصبّ في إطار مؤتمر تأسيسيّ للمنطقة... وحتى بلوغه تبقى السعوديّة كما كلّ القوى في سباق لتوطيد الدور وترسيخه، وبداءة ذلك الاتجاه إلى ضرب الفكر التكفيريّ وعدم استخدامه كأوراق حارقة، أي تطوير المؤسسة الدينيّة بفكر حديث، ويجري كل ذلك تحت المظلّة الأميركيّة الضاغطة باتجاه حلّ سياسيّ في كل الإقليم الملتهب تحت سقف الاتفاق مع إيران وبالتفاهم مع روسيا. وللأيام أن تثبت دقّة هذه الرؤية.