اء البنك الآسيوي للاستثمار يزيد المنافسة الدولية على القرار الاقتصادي العالمي ويرعب أميركا ويكرس انهاء هيمنتها الاقتصادية الأحادية، ويعزز نفوذ الصين وحلفائها على حساب النفوذ الأميركي. هذا ما يمكن استدلاله من قرار بكين تأسيس هذا البنك الآسيوي الذي يكسر احتكار الولايات المتحدة للقرار الاقتصادي العالمي عبر استئثارها وتحكمها بالمؤسسات المالية العالمية التي أنشئت على قواعد تكرس انتصارها وهيمنتها، لتجعل من مؤسستي صندوق النقد والبنك الدولي سلاحا لتقديم المساعدات للدول النامية والفقيرة بشروط مجحفة لإخضاعها لمشيئتها واستراتيجيتها التي تقوم على فرض الهيمنة على العالم.

ومثل هذا التوجه الصيني ليس هو الخطوة الوحيدة التي تقدم عليها بكين، إنما سبقها قرار مجموعة دول البريكس (التي تضم كلا من الصين،روسيا،الهند،البرازيل وجنوب أفريقيا) الصاعدة اقتصاديا في العالم بإنشاء بنك للتنمية وصندوق مركزه مدينة شنغهاي الصينية برأسمال قدره 150 مليار دولار.

وهذه الخطوة الصينية لاقت تجاوبا كبيرا من عشرات الدول التي أعلنت انضمامها للصندوق، ومن بينها دول معروفة بعلاقتها الجيدة والوطيدة مع الولايات المتحدة، مثل بريطانيا وايطاليا تمردت على القرار الأميركي، مما يعكس تراجعا واضحا في الهيمنة الأميركية وقدرة أميركا على منع التحولات الدولية المستمرة في اتجاه إنشاء مؤسسات دولية جديدة تقوم على قواعد التعاون بين الدول ومساعدة الدول النامية على النهوض بعيداً عن ربط ذلك بأجندات سياسية، كما يفعل صندوق النقد والبنك الدولي الخاضعان لقرار واشنطن.

وبالطبع فان السياسة الأميركية المصرة على مواصلة التفرد والهيمنة ورفض مشاركة الصين وروسيا وغيرهما في صناعة القرار الاقتصادي الدولي وبالتالي رفضها إعادة النظر بنظام الحصص في صندوق النقد والبنك الدولي على نحو يحقق هذه الشراكة، هي التي دفعت الصين بالتعاون مع حلفائها في دول البريكس إلى البحث عن سبل أخرى لكسر هذه الهيمنة الأميركية ووضع حد لها.

وهذا الأمر أكده إلي راتنر، الباحث في مركز الأمن الأميركي الجديد، وهو مؤسسة استشارية في واشنطن، بالقول: «في قلب هذا النزاع هناك الخلاف الطويل بشأن القواعد، والمعايير، والمؤسسات التي ستحكم الاقتصاد والسياسة في آسيا».

ويضيف راتنر: «إنها مشكلة جديدة ستواجهها الولايات المتحدة. وحتى لو لم تنضم الولايات المتحدة نفسها، فإن واشنطن لن تكتفي ببساطة بمعارضة هذه المؤسسات الجديدة، خاصة إذا كانت هناك بلدان غربية أخرى تُشارك بنشاط، ويعتقد بعض المسؤولين الأميركيين السابقين أن الولايات المتحدة ألحقت الضرر بنفسها في هذه المنافسة الجديدة على النفوذ مع الصين. فمن خلال حثّ الصين منذ أعوام لتكون «شريكاً مسؤولاً» في الحوكمة العالمية، دعمت الحكومة إصلاح نظام الحصص في صندوق النقد الدولي الذي من شأنه منح الصين دوراً أكبر، إلا أن الاقتراح تم تجاهله في الكونغرس.

على أن الأسئلة التي تطرح في هذا السياق هي:

ــ كيف سيتمكن البنك الآسيوي الجديد من كسر هيمنة البنك وصندوق النقد الدولي؟.

ــ وهل سيكون بقدرة أميركا إعاقته؟.

ــ وما هي انعكاسات ذلك على مكانة أميركا الدولية؟.

أولاً: إن القواعد والشروط التي ستحكم عمل البنك الآسيوي للاستثمار مغايرة تماما لتلك المعتمدة من البنك الآسيوي للتنمية وكذلك البنك والصندوق الدولي الذين يخضعون لقرار واشنطن، وهذه القواعد لا تفرض شروطا سياسية لقاء تقديم القروض ولا اصلاحات هيكلية في أنظمة اقتصادات الدول، كما يشترط مثلا صندوق النقد، وهي تبغي دعم إقامة مشاريع بنى تحتية للنهوض بقدرات الدول، بفائدة اقل من تلك التي تقدم من البنوك والصناديق التي تشرف عليها الدول الغربية.

ولهذا يصعب على أميركا الحيلولة دون توجه دول العالم الثالث لطلب القروض من البنك الآسيوي للاستثمار أو من بنك وصندوق دول البريكس، إلا إذا قررت أن تتخلى عن شروطها للإقراض، وفي الحالتين فان الصين ودول البريكس تكون قد نجحت وضع حد لشروط احتكار وهيمنة أميركا على القرار المالي واستطرادا الاقتصادي العالمي.

ثانياً: من الواضح أن قدرة أميركا على منع ولادة مركز عالمي جديد يصنع القرار المالي والاقتصادي الدولي وينهي احتكارها وتسيّدها عليه قد تراجعت كثيراً بعد فشل حروبها في أفغانستان والعراق في فرض السيطرة على موارد ومخزون الطاقة الذي يشكل الشريان الحيوي للاقتصاد العالمي وبالتالي عجزها عن التحكم باحتياطات وآمدادات النفط لمحاصرة الصين وروسيا وإخضاعهما ومنعهما من منافسة الولايات المتحدة على الساحة الدولية.

وهذا الفشل والتراجع يتبدى الآن بعدم قدرة الولايات المتحدة على الزام العديد من الدول الحليفة أو الموالية لها من الانضمام للبنك الآسيوي بقيادة الصين، على أن اعلان بريطانيا التقدم بطلب الانضمام للبنك الذي رحبت به الصين اثار استياء أميركا، لكنه دفع بالعديد من الدول الأوروبية لاعادة النظر بمعارضة الانضمام للبنك وتقديم طلبات مماثلة، ما يجعل في النهاية موقف أميركا واليابان في حالة من العزلة.

وهو ما دفع بعض الخبراء الصينيين إلى القول: «بان قرار المملكة المتحدة، دليل على النفوذ العالمي الصيني المتنامي ونصرا في حملة الرئيس تشي جينبينج لتحقيق «النهوض العظيم للدولة الصينية».

في حين قال لي يونلونج، وهو أستاذ في كلية الحزب التابعة للجنة المركزية، وهو أكبر معهد للتدريب الأكاديمي للقادة، في مدونته على الإنترنت: «الواقع أن البنك الآسيوي للاستثمار تمكن من أن يبذر بذور الشقاق بين الولايات المتحدة وبريطانيا. من الآن فصاعدا لن يعود من الممكن أن تقلق بريطانيا (بشأن العلاقة الخاصة مع الولايات المتحدة)، وهي تستخدم البنك لخيانة سيدها وتتزلف (إلى بكين)».

ثالثاً: من الواضح أن مكانة أميركا الدولية إلى تراجع مستمر، وأن إعادة تشكيل النظام المالي والاقتصادي الدولي وفق قواعد جديدة تقوم على الشراكة والتعددية الدولية سيكرس هذا التراجع، ويجعل أميركا مجبرة على التكيّف مع الوقائع الدولية الجديدة والتصرف وفق مقتضياتها، ما يعني أن قوة أميركا على فرض الهيمنة سوف تضعف أكثر مما هي عليه الآن، خصوصاً وأنها لم تعد هي القوة الوحيدة التي تستحوذ على قدرات مالية واقتصادية في العالم، بعد تنامي قدرات دول البريكس وتحولها إلى منافس عالمي قوي للاقتصاد الأميركي والغربي، وهو ما دفع هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركية السابق إلى القول في، كتابه «النظام العالمي»،: «إن بقاء الولايات المتحدة كقوة واحدة يبدو أن الظروف القائمه لن تساعد عليه، وأن قدرتها ضعفت على لعب هذا الدور اليوم، بينما تشهد القاره الآسيويه صعود قوي كبير كالصين والهند».