غريب أمر السياسيين اللبنانيين الذين لا يجدون حرجاً، بتسليم إرادتهم لغيرهم، والاستسلام بالكامل للخارج، سواء أكان هذا «الخارج»، عربياً أم إقليمياً أم دولياً!

لم تعد المسألة محصورة بالاستحقاق الرئاسي فقط، بل أصبحت تشمل كل الملفات العالقة، بالتأجيل والجمود، بحجة انتظار انجلاء الغبار الأسود في الساحات المشتعلة حولنا!

حتى الأمس القريب كانت الرهانات تدور حول تطورات الحرب السورية: هل سيخسر النظام وتتبدّل المعطيات، أم أن جماعات المعارضة ستتوحد وتقلب المقاييس، وتغيّر قواعد اللعبة على الأرض؟.. إلى آخر الاحتمالات التي كانت متداولة على مدى ثلاث سنوات من عمر الأزمة المستفحلة في سوريا!

فجأة انتقلت الرهانات اللبنانية الغبية إلى ساحة «الدولة الإسلامية» وحرب التحالف الدولي ضد «داعش» وأخواتها، وإعادة تسعير النعرات المذهبية في العراق وبلاد الشام، ووصول التنظيمات المتطرفة إلى التخوم اللبنانية في جرود عرسال ورأس بعلبك!

اليوم أصبحنا في مواقع بعيدة، مع انتقال رهان البعض إلى ما يجري في اليمن، بعد إطلاق «عاصفة الحزم» بمبادرة جريئة من المملكة العربية السعودية، وإعلان حرب التحالف العربي على التدخل الإيراني في اليمن، الذي أطاح بالشرعية الدستورية، وحاول تنفيذ انقلاب على القوى السياسية المنضوية في العملية السياسية، واتفاقيات الحوار الوطني!

بالنسبة للبعض، لم يعد الاستحقاق الرئاسي، مثلاً رهينة جماعة 8 آذار الذين يقاطعون جلسات انتخاب رئيس الجمهورية، بقدر ما أصبح أسير الحرب الجارية في اليمن، التي يتوقف على نتائجها مصير توازنات المعادلة اللبنانية الداخلية: إذا ربحت السعودية ومعها التحالف العربي معركة اليمن، تَعزّز وضع جماعة 14 آذار على الساحة، أما في حال تمكن إيران من إفشال أهداف عاصفة الحزم، وهذا أمر مستبعد طبعاً، فإن كفة 8 آذار ستكون الراجحة!

يكاد الوهم اللبناني يصل إلى حدّ الاعتقاد، أن كل أحداث الإقليم والعالم، تدور حول المحور اللبناني - كذا - وأن الوضع اللبناني عنصر فاعل ومؤثر في الصراعات الإقليمية - الدولية المحتدمة حولنا، وعليه لا بد من الانتظار إلى أن ينجلي دخان الحرائق والصراعات الساخنة في الإقليم!

* * *

واقع الأمر، يفرض علينا أن نعترف أن لبنان ليس على قائمة الأولويات في العواصم المعنية بالصراعات الدائرة في المنطقة. قطعاً ليس على رأس القائمة، ولا في موقع متقدّم منها، وقد يكون، في أحسن الأحوال، في أدنى أطراف لائحة الأولويات بالنسبة لأهل القرار الدولي والإقليمي.

أمام هذا الواقع المرير، لا بدّ من تحديد الخيارات الوطنية، إذا كان ثمة من هو قادر من السياسيين من الجهر بخياراته، من الأزمات والقضايا المصيرية والمعقدة التي يتخبّط فيها البلد، وفي مقدمتها: الاستحقاق الرئاسي، والإنقاذ الاقتصادي.

وإذا كان البعض يقذف بكرة النار الرئاسية إلى بكركي، لتحفيزها على ترتيب البيت المسيحي، وبلورة قائمة الترشيحات المارونية لرئاسة الجمهورية، فإن عملية الإنقاذ الاقتصادي تتطلب تضافر جهود الجميع: من اقتصاديين وسياسيين، من مؤسسات رسمية وهيئات اقتصادية، لأن عاصفة التردي والتدهور تسير بسرعة مخيفة نحو انهيار شامل، في البنية الاقتصادية والمالية، بسبب هذا التصدع الحاصل في جسم الدولة، وما يرافقه من صفقات هدر و«زلط وبلع»، على المكشوف، ومن دون رادع شرعي أو ضمير!

وزير المال دق ناقوس العجز والإفلاس الأسبوع الماضي، والمؤسسات المصرفية أبلغت مَن يعنيهم الأمر عدم قدرتها على الاستمرار في تمويل إنفاق الدولة، الذي يذهب بمعظمه إلى رواتب الموظفين، وسداد فوائد الدين العام، وسد عجز الكهرباء الذي يقارب ما نسبته 15 بالمئة من مجموع الموازنة، وهو رقم مخيف، بجميع المقاييس: المالية والاقتصادية والإدارية... ويتنافى مع أبسط قواعد الإصلاح والشعور بالمسؤولية الوطنية!

الهيئات الاقتصادية رفعت الصوت عالياً محذرة من موجة من الإفلاسات، وتوقف مؤسسات كبيرة عن الدفع، بسبب حالة الكساد وقلة السيولة، التي انعكست سلباً على الحركة الاقتصادية عامة، وعلى الأسواق خاصة!

الحركة السياحية إلى انخفاض مستمر، بالمقارنة مع السنوات السابقة، بعدما أعلن «حزب الله» الحرب الإعلامية والسياسية ضد المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي، الذين يُشكّل مواطنوهم المصدر الأساسي والأكبر للسياح الوافدين إلى لبنان على مدار السنة.

وإذا علمنا أن الاحصائيات السياحية تؤكد بأن إنفاق السائح الخليجي يعادل إنفاق عشرة سياح أوروبيين على الأقل، ندرك الأسباب الحقيقية للكارثة التي تتهدد القطاع السياحي برمته!

* * *

إن استمرار هذا الانقسام العامودي القاتل بين الطبقة السياسية، لم يؤد إلى تعطيل الانتخابات الرئاسية وحسب، بل وقد ينتج عنه ضياع الجمهورية كلها، وتحوّل لبنان الى دولة فاشلة، مع ما يعني ذلك من انهيار النظام السياسي والدستوري، وسقوط الصيغة الوطنية في متاهات الفيدرالية وما أدراك ما الفيدرالية، في زمن ينبري فيه الكونغرس الأميركي للتصويت على تقسيم العراق إلى ثلاث دول: واحدة للشيعة، وثانية للسنة، وثالثة للأكراد، وذلك في لعبة مكشوفة، وأصبحت مفضوحة لما يخطط لدول المنطقة وشعوبها في عصر الفتن والحروب المذهبية المفتعلة!

ولكن...

ماذا يبقى من لبنان في حال حصول الانهيار السياسي والاقتصادي، حتى يتحوّل إلى دولة لفيدراليات، أو كانتونات طائفية، فاشلة؟

أم ترى أن المطلوب الوصول الى مؤتمر تأسيسي جديد، ولو على أشلاء الوطن وبقايا الجمهورية؟