في 16 كانون الثاني 2014، إنطلقت أعمال "​المحكمة الدولية​ الخاصة بلبنان" في لاهاي، وهي لا تزال حتى تاريخه في مرحلة الإستماع إلى الشهود، علماً أنّه في 14 شباط الماضي، أيّ منذ نحو شهرين ونصف الشهر، حلّت الذكرى السنويّة العاشرة لاغتيال رئيس الوزراء السابق ​رفيق الحريري​، من دون أيّ تغيير في المواقف المُتناقضة من المحكمة وفي الرهانات المتضاربة عليها، حيث لا يزال كلّ من كان يُؤيّدها ويُعارضها على مواقفه، ولا يزال كلّ من يأمل أن تكشف المحاكمات الحالية حقيقة هذا الإغتيال المُدوّي وكذلك من يسخر من كل مُجريات المحكمة ويأمل فشلها، على رهانه. فهل ستحمل شهادة رئيس "جبهة النضال الوطني" النائب ​وليد جنبلاط​ في المحكمة الدولية أيّ جديد يُعزّز مسار كشف حقيقة إغتيال الحريري؟

بداية، وبالنسبة إلى إصطفاف جنبلاط السياسي الحالي، وما إذا كان هذا التموضع يُخوّله البوح بكل ما يَعرفه أمام المحكمة الدولية، خاصة وأنّ المُتهمّين الرئيسيّين العلنّيين في المحكمة–أقلّه حتى اليوم، هم من المحسوبين على "حزب الله"(1)الذي دخل معه جنبلاط في هدنة سياسيّة–إعلامية غير مُعلنة منذ أشهر عدّة، من المُتوقّع أن يكون رئيس "الحزب التقدّمي الإشتراكي" مُرتاحاً في الإدلاء بشهادته أمام القضاة. فما تريده المحكمة منه هو الوصول إلى "الدافع السياسي" في جريمة إغتيال الحريري قبل أكثر من عشر سنوات، ودوره يتركّز بالتالي على شرح وتفصيل حال التدهور التي كانت بلغتها علاقة الحريري بالقادة السوريّيين عشيّة تنفيذ تفجير الرابع عشر من شباط 2005، خاصة وأنّ جنبلاط كان في تلك المرحلة مُقرّباً جداً من الحريري الذي كان يجتمع به مراراً وتكراراً في كل من "قريطم" و"كليمنصو". ومن المُنتظر أنّ يُركّز جنبلاط في إفادته على التدهور الكبير الذي طرأ في علاقة مجموعة من كبار المسؤولين السوريّين مع كل من فريقي جنبلاط والحريري، بفعل الإختلاف الحاد الذي بلغ ذروته مع إصرار القيادة السورية على التمديد للرئيس السابق للجمهورية العماد إميل لحّود، وما تلاه من تطوّرات متسارعة في غضون بضعة أشهر. وسيُضيء جنبلاط على صدور القرار الدولي رقم 1559 في 2 أيلول 2004، والذي يُطالب "جميع القوات الأجنبيّة المتبقّية في لبنان بالإنسحاب"، ويدعو إلى حلّ "جميع الميليشيات اللبنانيّة وغير اللبنانيّة ونزع سلاحها"، وسيركّز على إستقالة الوزراء الذين كانوا يُمثّلونه في الحكم في 9 أيلول 2004، وعلى محاولة الإغتيال الفاشلة التي تعرّض لها الوزير مروان حمادة في 1 تشرين الأوّل 2004، وعلى إستقالة الحريري في 20 تشرين الأوّل 2004، وصولاً إلى عملية إغتياله في 14 شباط 2005، أيّ بعد أقلّ من أربعة أشهر من خروجه أو إخراجه من الحكم. كما سيستعرض النائب جنبلاط خفايا اللقاءات التي جمعته مع الحريري، خلال مرحلة الخلاف مع الرئيس السابق إميل لحّود ومع النظام السوري، وما كان يكشفه له عن محاضر إجتماعاته في دمشق مع القادة السوريّين.

وأهميّة شهادة جنبلاط مُضاعفة لأنّه سينقل تفاصيل آخر إجتماعات "الشيخ رفيق" مع القادة السوريّين في الفترة التي تلت إغتياله، حيث ستُحاول المحكمة الدولية معرفة حجم التهديدات التي تلقّاها الحريري في حينه، وحجم الضغوط التي مُورست عليه، من شخص كان مُقرّباً جداً من الحريري في تلك المرحلة بحيث دخلا في حلف سياسي غير مُعلن آنذاك. وترمي المحكمة من وراء ذلك إلى تثبيت نظريّة حال العداء بين الحريري والقيادة السورية قُبيل إغتياله، وفهم مصلحة هذه القيادة في إبعاد شخصيّة سياسيّة بحجم الراحل عن الساحة السياسية اللبنانية.

وبحسب المعلومات المُتوفّرة إنّ جنبلاط الذي كان أطلق منذ مدّة نظريّة الجلوس إلى ضفّة النهر لمشاهدة مرور جثث خصومه، وشاهد نظرياً مرور جثة رئيس إدارة الأمن السوري سابقاً اللواء رستم غزالي منذ بضعة أيّام، بعد مرور جثث العديد من القادة الأمنيّين السوريّين في الأشهر والسنوات القليلة الماضية، لا يملك ما يخسره مع القيادة السورية، وهو مُستعدّ للذهاب في شهادته ضد القادة الأمنيّين السوريّين إلى أبعد الحدود كون "الجرّة مكسورة" مع دمشق أساساً، مع حرصه في الوقت عينه على إبقاء الخطوط مفتوحة مع "حزب الله". وفي حال حاول قُضاة المحكمة عبر أسئلتهم الربط بين مدى التنسيق الأمني بين القيادة السورية و"حزب الله" في الفترة التي إغتيل فيها الحريري، فإنّ جنبلاط قادر على المناورة لجهة التركيز على مصدر القرار بجريمة الإغتيال مع تقليل أهمّية العناصر المُنفّذة–أيّا تكن هويّتها، باعتبارها أدوات صغيرة تُنفّذ الأوامر العسكريّة لا أكثر.

ويُمكن القول إنّ جنبلاط يُدرك قبل سواه أنّ السلسلة التي تربط المُنفّذين الميدانيّين بجريمة الإغتيال، وأصحاب القرار و"الضوء الأخضر" بالتنفيذ قد قُطعت في أكثر من مكان، بفعل مجموعة من الإغتيالات والتصفيات والوفيّات المشبوهة خلال السنوات القليلة الماضية(2). وبالتالي، إنّ شهادته لن تُوصل بالدليل الملموس إلى القاتل أو القتلة، ولكنّها ستُوجّه أصابع الإتهام أكثر فأكثر إلى الجهة المسؤولة عن ذلك، والأهمّ أنّها ستريح ضميره، لجهة القيام بما كان يجب أن يقوم به قبل نحو أربعة عقود عندما إغتيل والده كمال جنبلاط في آذار 1977، لكن الظروف آنذاك حالت دون ذلك، وطبعاً الخوف من أن يُصبح هو الآخر جثة تطفو في النهر!

(1)تُهم فريق الإدعاء في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في جريمة إغتيال رفيق الحريري، مُوجّهة حتى الساعة إلى كل من مصطفى بدر الدين، سليم جميل عيّاش، حسين عنيسي، أسد صبرا، وحسن حبيب مرعي.

(2)تعدّدت الأسباب لكنّ الموت كان واحداً بالنسبة إلى العديد من القادة الأمنيّين السورييّن، وأبرزهم: غازي كنعان، وآصف شوكة، ورستم غزالي، وجامع جامع.