لا يمكن قراءة اللقاء بين رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون والأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله، في ظلّ المشهد الضاغط داخيًّا أو خارجيًّا، إلاّ بسياق كليّ جامع وواضح، أعاد على المستوى الداخليّ المنطلقات الضروريّة غير المحصورة فقط بالحلف الاستراتيجيّ بين الفريقين، ولكنّها تعنى بدورها بالأسس الميثاقيّة التي يجب استحضارها وتركيزها في مسائل دقيقة بدءًا من رئاسة الجمهوريّة وصولاً إلى التعيينات الواجب حصولها في القطاعين العسكريّ والأمنيّ.

أتى اللقاء في قلب اصطفاف الجدل حول الملفّات ليزكّي ما قاله العماد عون عن تحالفه مع الحزب بأنّه تكامل وجوديّ. وفي آخر زيارة قام به وفد من الحزب إلى الرابية، اعتبر الحزب بعدها، بأنّ الحزب والتيار هما جسد واحد، كلّ الأعضاء تتكامل في وحدانيّته المتكاملة. من هذه الزاوية، تمّم اللقاء تلك الصورة بين الرجلين بدءًا من الشكل الظاهر في أسلوب الخطاب السياسيّ الجامع والمشترك بل الواحد، وصولاً إلى المضمون حيث الشكل يتجسّد فعليًّا بجوهر ذلك التكامل الفعّال والعميق، المنطلق من الخطوط العريضة في سياق الصراع مع الإسرائيليين والتكفيريين، والذي يصبّ في التفاصيل في الملفّات الداخليّة الكبرى منها والصغرى، ومنها تولد المعايير وتتوسّع خطوطها وآفاقها في تحقيق المعالجات اللازمة.

وفي مكاشفة أظهرها مصدر قريب من الفريقين، يقول أنّ الحزب لن يعتريه إحراج في قول ما يريده على مستوى العناوين المطروحة في الداخل والتي لا تنفصل عراها عن الرؤى الاستراتيجيّة تجاه الصراع في المنطقة وحولها. فما يجدر فهمه، وبحسب تحليل المصدر، أنّ العلاقة لم تخلُ من النقاش الذي يجعل الحراك السياسيّ أكثر ديناميّة واتساعًا أو اتساقًا. ليس المطلوب أن يكون كل فريق على صورة الآخر، عندها لا يستقر الحراك على ديناميّته المطلوبة في معالجة العناوين والمواضيع. وإذا ما تداخل النقاش اختلاف، ومضى الاختلاف إلى التجسيد السياسيّ في محطّات واضحة كما حصل خلال التمديد لقائد الجيش جان قهوجي على سبيل المثال لا الحصر، فلا يعني ذلك بأنّ كل فريق مضى إلى خاصته وتمترس خلف أسوارها، حاجبًا نفسه عن رؤية الآخر وعاصمًا لسانه عن مخاطبته. لكنّ الظرف الحاليّ، لم يعد يحتمل عند الفريقين عودة إلى أحلاف كتلك التي حصلت في لحظة الانتخابات النيابيّة سنة 2005، بحيث تعزل فريقًا أساسيًّا وجوهريًّا، مكوّنًا للبنان. ثمّة قناعة رسخت عند "حزب الله" بأنّ استيلاد الفريق المسيحيّ في كنف الآخرين، لا يليق بلبنان وبحضوره العربيّ والمشرقيّ، ولا يليق بتاريخه المتماهي مع القضيّة الفلسطينيّة والقضايا العربيّة الأخرى. وتبيّن له بأنّ العزل سيؤدّي إلى انعزال قاتل، ويكون الانعزال التوطئة الموضوعيّة للتوتّر ومن بعد ذلك الانفجار. و"حزب الله" مقتنع لا بسبب وفائه والتزامه وهو حريص على سطوعهما في جوهر أدبيّاته وسلوكيّاته، بل بسبب قراءته العاقلة والمجرّدة، بأنّ الحقّ المسيحيّ هو الحقّ الإسلاميّ، والحقّان معًا هما حقّ لبنانيّ، لا نقاش فيه ولا خلاف حوله. لقد بات ذلك مسرى عقيديًّا حاضنًا لسيرورة العلاقة بين الفريقين.

على ضوء تلك الرؤى، تأتي بعض الأوساط السياسيّة لتؤكّد بأنّ الاقتراح-التسوية، الذي قدّمه رئيس الحكومة السابق سعد الحريري للعماد عون مباشرة أو بواسطة وزير الداخليّة نهاد المشنوق أو النائب السابق غطّاس خوري، من دون تسويق إعلاميّ وسياسيّ له كما درجت العادة في أدبيات التيار الأزرق، والذي قضي بتعيين العميد عماد عثمان مديرًا عامًا لقوى الأمن الداخليّ، والعميد شامل روكز قائدًا للجيش، تمّ إجهاضه بصمت الحريري نفسه، وتاليًا، بذلك التحالف الرافض لوصول روكز لقيادة الجيش من قبل رئيس المجلس النيابي نبيه برّي والنائب وليد جنبلاط والنائب فؤاد السنيورة، والذي انبرى بقوله بأنّ لا حظوظ للعماد عون بالوصول لرئاسة الجمهوريّة. ظنّ من تحالف بوجه تلك التسوية، بأنّ "حزب الله" سيضطر للمسايرة من جديد، ويتمّ لفظها بدلاً من هضمها بسلاسة طيبة، غير أنّ أجواء الحزب ليست بمقاييس الظنّ ومعاييره. فالتمديد الأوّل لقائد الجيش خلال وجود رئيس للجمهوريّة كانت له ظروفه وحساباته، أمّا اليوم فقد تغيّرت الظروف والحسابات، بعد انكشاف أنّ رفض وصول عون لرئاسة الجمهوريّة حُرِّكَ سعوديًّا من قبل وزير الخارجيّة السعوديّة المعفى من منصبه سعود الفيصل بعد أربعين عامًا من تبوّئه المنصب، ويبدو أنّ السنيورة هو اللاعب الأساس في تبويب الرفض ومحاولة تثبيته، بتوظيف سعوديّ واضح. أمام تلك اللوحة، يقف الحزب وقفة مختلفة، في ظلّ الصدام الكلاميّ بينه وبين المملكة العربيّة السعوديّة، وهو العارف أنّ من يمنع وصول العماد عون أو يجهض التسوية معه هي المملكة عينًا، وقد عبّر عن ذلك بوضوح نائب الأمين العام لـ"حزب الله" الشيخ نعيم قاسم في خطابه الأخير، في ما خصّ رفض المملكة وصول عون للرئاسة.

من هنا يستنتج المرء بوضوح تامّ، بأنّ "حزب الله" سيكون إلى جانب "التيار الوطنيّ الحرّ" في مواجهته لخيار التمديد للقيادات العسكريّة والأمنيّة في ظلّ قناعة واضحة عند الحزب بأنّ التمديد هو تمديد للأزمة وتطويق للدور المسيحيّ منعًا لوصول ممثليّه الحقيقيين سواء من رئاسة الجمهوريّة إلى باقي المواقع العائدة لهم.

في الخلاصة، ان العماد عون ماض في المواجهة إلى الأخير ليس لسبب شخصيّ يخصّ طموحه وهو في النهاية طموح مشروع لكلّ لبنانيّ ومواطن، ولكن لسبب يختصّ بمسيحيي المنطقة انطلاقًا من مسيحيي لبنان، إذ لا يسوغ بعد كل تلك الأسباب الموجبة أن يبقوا مستولدين في كنف الآخرين سواء عن طريق التعيينات أو سواها، والأمر الأخير أنّ الرئاسة وعلى الرغم من تأجيل حصولها حتّى نضوج التسوية في المنطقة تستحقّ كما لبنان والمسيحيين شخصيّة مسيحيّة لها حيّزها التمثيليّ الواسع، تنطلق منه في التلاقي مع معظم المكوّنات ليبقى لبنان بهذا التلاقي المتين والراسخ، قويًّا فريدًا في محيطه المشرقيّ والعربيّ.