تمثل شهادة النائب ​وليد جنبلاط​ امام المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس ​رفيق الحريري​ بعد عشر سنوات على الاغتيال كتابة هادئة تفصيلية وتوثيقية ليس لمرحلة تاريخية محددة فحسب اتسمت بوقائع على صلة مباشرة بعملية الاغتيال والاسباب التي يعتقد انها ادت اليها بل امتدت لمرحلة تاريخية بعيدة اثار من خلالها جنبلاط الاستغراب دوما حول قدرته على تجاوز اغتيال السوريين لوالده كمال جنبلاط واستيعابه ما حصل بالبقاء على علاقاته بالنظام السوري حفاظا منه على البلد. ينتظر كثر ان يكتب جنبلاط مذكراته او يفصح عن يومياته المرافقة لمراحل عاصفة من التاريخ الحديث سبقت او رافقت اغتيال والده كما مرحلة اغتيال الرئيس الحريري من اجل الاطلاع على دقائق هذه المرحلة وخلفياتها. فالرجل غني بتاريخه وبمعلوماته التفصيلية والدقيقة التي لا يفصح عنها سوى لماما او باسلوب متقطع في احاديثه الصحافية ونادرا ما روى تاريخ علاقته مع النظام السوري او مرافقته لمرحلة التمديد لاميل لحود كما رواها امام المحكمة بناء على الاسئلة التي وجهت اليه علما ان عناوين كثيرة منها معروفة. لكن الشهادة امام المحكمة الدولية اتاحت نا لا تتيحه اي مذكرات او يوميات في مرحلة اكثر هدوءا وبعيدا من الانفعال والغضب اللذين طبعا مرحلة 2004 و2005 خصوصا، علما ان جنبلاط انتقل من تلك المرحلة السياسية وما طبعها الى موقع اخر. لكن الوقائع السياسية تبقى هي نفسها بعدما باتت هي التاريخ نفسه. فالرجل مثير للجدل مقدار ما هو مثير للاهتمام على نحو يمكن معه القول ان سياسيين كثر يطمحون لو انهم يمتلكون الكاريزما السياسية الخاصة به والرقم الصعب الذي يشغله في المعادلة الداخلية كما في طبيعة العلاقات التي نسجها مع عواصم عدة بما يجعله صاحب نفوذ لا يمكن انكار حيثيته على رغم صغر طائفته. فمع ان كثيرا مما قاله سبق لشخصيات قريبة من الرئيس الشهيد ان ادلت بالوقائع نفسها او بعناوين الوقائع نفسها، الا ان سرد جنبلاط لهذه الوقائع يكتسب بعدا مختلفا انطلاقا من موقع الرجل نفسه والذي لم يكن من الفريق المقرب للحريري بل احد ابرز اصدقائه ولم يكن يبصم له على بياض في مشاريعه وخططه كما قال هو نفسه. فهو عايش المرحلة من هذا الموقع الاخر القريب والمرادف باعتباره فريقا سياسيا كان له اختلافاته مع النظام السوري لكنه كانت له علاقاته معه ايضا كما له علاقاته ولا يزال مع حلفاء هذا النظام. فالرجل لم يكن شاهدا على مرحلة تاريخية بل كان احد صناعها ايضا ما يجعل شهادته امام المحكمة ذات طبيعة مختلفة عن شهادات سياسيين آخرين، لكن ما يكسبها صدقية كبيرة في الوقت نفسه انطلاقا من ان كثرا في موقع الخصم لهؤلاء السياسيين يمكن ان يشككوا في شهاداتهم باعتبارها من طرف الضحية فيما جنبلاط من موقع طرف الضحية استنادا الى العلاقات الوثيقة والتنسيق ومواجهتهما التحدي نفسه العام 2004 لكن من موقع مستقل ايضا.

لا يحاكم النظام السوري امام المحكمة الخاصة بلبنان في اغتيال الرئيس الحريري. فالمتهمون عناصر من "حزب الله" ولا يجد المدافعون عنهم امام المحكمة ما يدحضون به الشهادات التي ادليت حتى اليوم امام المحكمة في الوقت الذي لم تتناول هذه الشهادات هؤلاء المتهمين من قريب او بعيد فيجد الدفاع نفسه في احراج المضطر الى الدفاع عن نظام ليس مكلفا في نهاية الامر الدفاع عنه وليس متهما رسميا امام المحكمة. لكن دلل النظام على مسارعته بنفسه الى استباق استكمال فصول محاكمة المتهمين في اغتيال الرئيس الحريري بتصفية جميع المتورطين او المطلعين على تفاصيل عملية الاغتيال من ضباطه الذين كانوا على صلة مباشرة بالملف اللبناني. تبين ان للمحكمة الدولية مفاعيلها في نهاية الامر حتى لو تمت محاربتها سابقا او تم تقليل اهمية ما ستصل اليه. ولا يمكن اللبنانيين الذين عايشوا عقودا من الاحتلال السوري الا ان يلمسوا بوضوح اكثر من اي مراقب اخر للتطورات الداخلية السورية المتصلة بهؤلاء الضباط ان الامر يتعدى اي عشوائية او صدفة في سقوطهم الواحد تلو الاخر ولو ان احدا لا يملك الدلائل المثبتة لذلك. هم عايشوا توالي اغتيال الشهداء في لبنان في الاعوام الاخيرة منذ محاولة اغتيال النائب مروان حماده قبل اغتيال الحريري ويدركون بحدسهم ومعلوماتهم ما تحفزه شهادة جنبلاط بالذات وهو صاحب التاريخ الطويل في علاقاته بسوريا لجهة كشفه ان الصراع السياسي كان قويا من اجل متابعة النظام السوري السيطرة على لبنان. وهو ما يؤدي الى ان يكشف في الوقت نفسه ان في اداء النظام قبل عشر سنوات اسباب او بذور ما انفجر في 2011 في سوريا بالذات حيث الرغبة القاتلة في الاحتفاظ بالسلطة ايا يكن الثمن وباي وسيلة. لم يرها النظام في 2004 في لبنان ولم يرها في العام 2011 في سوريا.

ثمة كثير مما يحرج من يستمرون في موالاة النظام السوري في شهادة جنبلاط كما شهادات من سبقه في وقائع عايشها الجميع ويتعذّر دحضها خصوصا متى تكررت الرواية نفسها على السنة الجميع لكن وفق موقع كل من اصحاب الشهادات. فتاريخ الاحتلال السوري للبنان بات مؤرخاً في شهادات سياسييه امام المحكمة على نحو لا يستطيع اي كتاب تاريخ ان يفعل.