"تنذكر وما تنعاد".. عبارة اعتاد اللبنانيون تكرارها في ذكرى الحرب الأهلية في 13 نيسان من كل عام؛ في محاولة منهم لرمي الماضي خلفهم، لكن من حسن حظ اللبنانيين أن "قطوع" 7 أيار من العام 2008 قد مرّ عليهم قبل قدوم نسائم "الربيع العربي"، عسى من لم يتعظوا من الذكرى الأولى أن يتعظوا من الثانية، خوفاً على لبنان من "الثالثة ثابتة"، لأن انتصار فريق لبناني على حساب فريق آخر أثبتت التجارب المُرّة أنه مكروه ومدمِّر وقاتل.

نستذكر "7 أيار" لأننا لسنا خائفين حتى الآن من 7 أيار آخر، رغم أن "نسائم الربيع العربي" بدأت من لبنان، وتحديداً من نهر البارد عام 2007، وكل المحاولات التي حصلت لاحقاً كانت تهدف إلى إيقاعنا في "الثالثة ثابتة"، ولا حاجة لنستذكر عكار وطرابلس وعبرا وعرسال، وأن في كل منها كان هناك مشروع فتنة، وما زال الجيش يزيل ألغامه في طرابلس بانتظار أن يزيلها من عرسال، وربما لم تكن واضحة للبعض سابقاً دعوة السيد حسن نصرالله اللبنانيين إلى الاختلاف على الخارج في الخارج، وأن يبقى الداخل بمنأى عن ارتداداته، ربما كي لا يتكرر "7 أيار" بكل مآسيه.

من المكابرة الاعتقاد أن "7 أيار" لم تحصل محاولات لاستعادته، وها هي الرؤوس التي أسقطها الجيش اللبناني، سواء تلك التي انتقلت إلى ديار الحق، أو الهاربة من العدالة، أو الموجودة في سجن رومية، كانت تعمل بالتوازي مع المستجدات الإقليمية على تأجيج نار الفتنة واستحضار ما هو أخطر وأفظع من "7 أيار"، وعلى امتداد خارطة الوطن، وصولاً إلى رفع الراية السوداء على مدخل قصر بعبدا، وكان رهان اللبنانيين على الجيش اللبناني وعلى حكمة من لديهم الرؤية من القادة، وأمين عام حزب الله في طليعتهم، على استيعاب نوبات بلغت حدود الهلوسة والجنون والمجون لدى الجماعات المحرضة على الإرهاب، وإخماد الفتن المتنقلة في كل مهد أطلت برؤوسها منه، ومع ذلك ما زالت بعض الرؤوس من "الصف الثاني" تطل لغاية الآن، وتستقوي بالعواصف الإقليمية إلى حد الرهان حتى على "عاصفة الحزم" في اليمن، وانتصارات "داعش" في الأنبار، وتبني جسور أمل على سقوط "جسر الشغور" بأيدي الإرهابيين!

إذا كان "الربيع العربي" قد استهدف الأنظمة في تونس ومصر وليبيا واليمن، ويستهدف النظام في سورية، فإن حقيقة هذا "الربيع" تُقرأ لبنانياً وفق ما يحصل في العراق، لأن العراق لم يكن بحاجة إلى قلب نظام قلبه له الأميركيون بالتحالف مع دول الخليج قبل عقد من زمن "الربيع العربي"، وتظهر الحرب فيه مذهبية فاقعة بامتياز، حيث يوضع "الحشد الشعبي" على اللائحة الوطنية عند الحاجة إليه، كما حصل في معركة تحرير تكريت، ويوضع على اللائحة الإيرانية المنبوذة في الأنبار نظراً إلى الخصوصية المذهبية للمحافظة، ثم استعادته إلى الوطن لاستحالة مواجهة "داعش" بدونه، وهنا نستذكر ما تضمنته الخطة الأميركية وتناقلته كافة وكالات الإعلام في بدايات "الربيع العربي": "العرب جمعتهم الأرض فلتفرقهم السماء"، وهكذا كان، وضُربت الطوائف والمذاهب ببعضها، وكان لـ"الصراع السُّني - الشيعي" الحصة الأفدح، وتحديداً في العراق.

مشهدية هذا "الربيع العربي" الذي شاءته أميركا والحلفاء الخليجيون لن تتوقف قبل أن تلامس النار عرشاً ملكياً أو أميرياً، والسبحة بعدها ستتناثر حباتها بسرعة قياسية، وما محاولات ضم عرشي المغرب والأردن إلى دول مجلس التعاون، رغم البعد الجغرافي، في حين رفضت الطلبات المتكررة من اليمن منذ الثمانينات، سوى مصالح ذاتية لعائلات مالكة أو حاكمة، ممنوع في عرفها أن يسقط تاج أو يهتز عرش، في وقت يجب أن تغدو باقي الدول العربية "إسرائيليات" مذهبية أو عرقية، وهذا هو المطلوب أميركياً و"إسرائيلياً" وخليجياً، خصوصاً بعد الإصرار الأميركي على إشعال ساحات التذابح الذي كانت آخر مؤشراته منذ أيام قرار بتسليح السُّنة والأكراد في العراق، مع استمرار الحرب السعودية على الحوثيين في اليمن.

كثيرون في لبنان انزلقوا، سواء على مستوى السياسيين أو رجال الدين، ليقطفوا مذهبياً ثمن انتصارات واهمة واهية في الجوار الإقليمي، وكاد لبنان أن يعرف منذ العام 2011 نسخة عن 7 أيار "على مستوى أرفع"، من شماله إلى جنوبه مروراً ببيروت والداخل، لأن الوطن الصغير معتاد على الارتدادات، لكن لبنان ما بعد العامين 2000 و2006 ليس كما قبلهما، وخطورة 7 أيار 2008 أنه حصل بين السُّنة والشيعة حصراً، بصرف النظر عن المسببات والنتائج، لكن التجربة كانت كافية للجم المتهورين وكبح جماح المراهنين، ولو جزئياً، وما استمرار الحوار بين حزب الله و"تيار المستقبل" بعد طول انتظار سوى قناعة راسخة بوجوب الجلوس إلى طاولة لتهدئة اللعبة، كي لا يُطرح كل لبنان على طاولة الجزارين الدوليين والإقليميين، ويكون مأدبة لشياطين القرن.