في الشهر الاخير من العام المنصرم، كثر الكلام عن دور بارز خصصته السعودية لرئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​، وهو ما تجلى في زيارة خاصة له الى المملكة التقى خلالها وليّ العهد السعودي ووزير الخارجية ورئيس الاستخبارات، وعن حضور اكثر فاعلية له في قوى "14 آذار"، خصوصاً على الساحة المسيحية فيها. لكن هذه الزيارة حملت ايضاً منحىً آخر وفق تفسير البعض، وهو أنّ جعجع بات يتمتّع بأهلية كبيرة للتحدث مع النائب ​سعد الحريري​ من الند الى الند بالنسبة الى قوى "14 آذار".

اليوم، وبعد مرور اشهر عدة حصل فيها ما حصل من تطورات ميدانية وسياسية، والاهم تغييرات في الحكم السعودي، عاد الكلام عن الحريري بقوة الى الواجهة، وبات بمثابة مبعوث خاص للملك السعودي الى اكثر من بلد واكثر من محطة، وبعد فترة كان فيها في الظل السعودي بسبب خلافات شخصية، انطلق في الآونة الاخيرة بقوة وعاد الى سابق عهده، "ايام العز".

وانطلاقاً من هذا الواقع، كنا قد اعتدنا على انه كلما القى الامين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله كلمة، يبادر جعجع بشكل سريع الى الرد عليها. ولكن هذا الواقع تغير اذ حلّ الحريري مكان جعجع في الرد على نصر الله على مرحلتين: بشكل فوري وآني مستخدماً وسائل التواصل الاجتماعي، ثم عبر تصريحات او لقاءات عدة. صحيح ان هذا الامر لم يحل دون رد جعجع على نصر الله، ولكنه رد يأتي متأخراً فيما كان السبّاق الى تفنيد ما يقوله الامين العام لـ"حزب الله".

سرّ هذا التحوّل فرضته الظروف دون شك، اذ من المهم ان يبقى التوازن السعودي-الايراني في لبنان قائماً دون سيطرة لطرف على الآخر، وهذا يتطلب ان تواجه شخصية سنّية ما يقوله نصر الله (الشيعي)، ويجب ان تتحدث الشخصية السنّية ايضاً باسم السعودية كما يتحدث نصر الله باسم ايران.

وفي ظل التطورات التي تشهدها المنطقة وخصوصاً في اليمن، وفي ظل بوادر الاتفاق النووي الذي بات على مشارف الانتهاء، لم يعد من المفيد توجيه البوصلة نحو المسيحيين حالياً، لذلك استلم الحريري الدفّة دون ان يعني ذلك ان جعجع بات خارج المعادلة السعودية.

وعلى عاتق الحريري مسؤولية مزدوجة، اذ انه يرفع وتيرة اللهجة مع "حزب الله" ونصر الله تحديداً في ما خص الوضع الاقليمي (سوريا، اليمن، العراق...)، ويخففها الى حدها الادنى في ما خص الوضع الداخلي حول المواضيع غير الخلافية، ولعل موضوع معركة القلمون التي ستنطلق بين لحظة واخرى، خير دليل على ذلك، اضافة الى الخطط الامنية المتنقلة وغيرها من الامور.

في المقابل، يحرص نصر الله ايضاً على ملاقاة الطرف الآخر في منتصف الطريق، بدليل امتناعه عن استهداف الحريري بشكل مباشر في كلماته ومواقفه، والاكتفاء بالاشارة الى بعض قيادات قوى "14 آذار" و"تيار المستقبل"، رغم ذكر رئيس الحكومة السابق له بالاسم في اكثر من مناسبة.

وبالتالي، يظهر ان المحافظة حالياً على ميزان اللعبة السياسية في لبنان و"الحرب الباردة" بين ايران والسعودية على ارضه، امر يتطلب حلول الحريري مكان جعجع في قضايا الحزب وايران وهو ما حصل بالفعل، ووفق المنحى الذي تسير به الامور، لا يبدو ان استعادة جعجع لدوره السابق في هذا المجال هو في المدى المنظور، لذلك توجه الى مسار آخر في الوقت الراهن هو مسار الخط المسيحي والحوار مع "التيار الوطني الحر"، فيكسب "الوقت الضائع" بحركة مسيحية مطلوبة قد تظهر فوائدها في وقت قريب.

وفي غضون ذلك، يضع اللبنانيون جانباً المواجهات السياسية الاستعراضية، ويترقبون المواجهات الميدانية من جهة، ومصير المواجهة التفاوضية بالنسبة الى العسكريين المخطوفين من جهة ثانية، اضافة الى المواجهات اليومية التي تبتكرها عقول المسؤولين لالهاء الشعب عن متابعة ما يجب متابعته في هذه المرحلة الحرجة من عمر المنطقة ككل.