قبل سفره إلى لاهاي للإدلاء بشهادته أمام ​المحكمة الدولية​ الخاصة بلبنان، "غرّد" رئيس "اللقاء الديمقراطي" النائب ​وليد جنبلاط​، قائلاً: "عليكم لاحقًا الحكم على شهادتي".

لكنّ هذا الحكم لم يتأخر كثيراً. لم تشذ شهادة "البيك" عمّا سبقها من شهادات لم تقدّم ولم تؤخّر شيئًا في المعادلة. بدت أشبه بحوار تلفزيوني مطوّل معه، تعدّد فيه المحاورون، وتنوّعت الأسئلة والأجوبة، ولم يخلُ بطبيعة الحال من "النهفات" التي عوّد جنبلاط الجمهور عليها...

لا مفاجآت..

لا شكّ أنّ وليد جنبلاط رجلٌ استثنائي بكلّ شيء، هو الذي يوصَف في لبنان بـ"بيضة القبّان"، وهو الذي تتحكّم "تقلّباته المزاجية" بمسار الأحداث والتطورات على أكثر من صعيد، كما أنّ "البيك" يحقّ له ما لا يحقّ لغيره، وهو الذي تشكّل "انعطافاته الدورية" الحدث دون منازع، لدرجة أنّ مقولة "كلام الليل يمحوه النهار" يمكن أن تنطبق حرفيًا معه، والتجربة خير برهان.

الرجل استثنائي إذاً، وهو وصفٌ ينطبق أيضًا على علاقته برئيس الحكومة الأسبق الشهيد ​رفيق الحريري​، وهو الذي لطالما كان يُعتبَر من أقرب المقرّبين إليه، بل صديقه الصدوق وربما مخزن أسراره وخباياه. ولعلّ هذه المعطيات كلّها دفعت الكثيرين لاعتقاد أنّ عدوى "الاستثنائية" ستصل إلى إفادته أمام المحكمة، فتكون "استثنائية" بدورها، بخلاف كلّ ما سبقها من إفادات، لم تسمن ولم تغنِ من جوع.

لكن ما كلّ ما يشتهيه المرء يدركه. من هنا، لا تتردّد مصادر سياسية مطلعة بالقول أنّ شهادة جنبلاط لم تحمل أيّ جديدٍ يُذكَر بل إنّها خلت من "المفاجآت" التي يمكن البناء عليها، حتى أنه لم يطعّمها بأيّ موقفٍ صادمٍ ومفاجئٍ خارج إطار البديهيات والتوقعات، مخيّبًا بذلك الكثير من الآمال، ممّن اعتقدوا أنّ منبر المحكمة سيوفّر له فرصة ذهبية لـ"انعطافة جديدة" يعود من خلالها إلى أحضان "ثورة الأرز".

تحليل سياسي..

ترى المصادر أنّ إفادة "البيك" بدت بشكلٍ أو بآخر عبارة عن "مذكرات شخصية" تكاد ترتقي في أفضل الأحوال لمستوى "التحليل السياسي"، باعتراف طاقم المحكمة نفسه، الذي لم يجد نفسه قادرًا على الأخذ بما أدلى به جنبلاط حول تورّط النظام السوري في جريمة اغتيال الحريري كونه لم يقدّم "أدلة ملموسة" على ذلك، سوى من الزاوية السياسية، التي تختلف بطبيعة الحال 180 درجة عن الزاوية القانونية والقضائية التي يمكن أن يُعتدّ بها.

وإذا كان ما نقله "البيك" عن الشهيد الحريري لجهة قوله له قبل ثمانية أيام فقط من اغتياله "إما يقتلونني أو يقتلونك" معطوفاً على ما وصفها بـ"النصيحة الأخوية" التي تلقاها من اللواء حكمت الشهابي والتي لم تتجاوز مقولة "انتبه يا وليد"، فكلّها "رواياتٌ"، سواء صحّت أو لم تصحّ، لا يمكنها أن تشكّل "إدانة" لأحد، فلا "حدس" الحريري المنبثق من كونه "رجلاً مؤمنًا"، كما أصرّ جنبلاط، يفيد العدالة بشيء، ولا التنبيه "الغامض" الذي تلقاه جنبلاط يكفي للقول أنّ السوريين يحضّرون شيئًا لـ"البيك"، وإلا لوجبت إدانة كلّ من يتحدّث عن لوائح اغتيال هذه الأيام، ويوجّه "نصائح" للقادة السياسيين باتخاذ الحيطة والحذر.

أما لحديث "البيك" عن "تهديداتٍ مباشرة" تلقاها رئيس الحكومة الأسبق من "رموز" الوصاية السورية في لبنان في حال عدم سيره بالتمديد لرئيس الجمهورية آنذاك العماد إميل لحود، فلا معنى لها وفقاً للمصادر، طالما أنّ الحريري نفّذ في النهاية "الأوامر السورية" وصوّت لصالح التمديد للحود، بغضّ النظر عمّا إذا كان قد فعل ذلك عن قناعة أم لا، وبالتالي فإنّ التهديدات التي تلقاها "الشيخ رفيق" سقطت بتنفيذه للإملاءات، ولم يعد بعدئذٍ لها أيّ محلٍ من الإعراب.

"حزب الله" محيَّدٌ..

أبعد من كلّ ذلك، فإنّ تحييد جنبلاط لـ"حزب الله" بالكامل عن إفادته لم يكن مستغرَبًا بأيّ شكل، بحسب المصادر، التي لا تربطه فقط بـ"الهدنة المُعلَنة" بين "الحزب التقدّمي الاشتراكي" و"حزب الله" منذ أحداث السابع من أيار الشهيرة، إذ تقول أنّ "البيك" أصلاً لم يتهم الحزب بتاتاً بالتورط في جريمة اغتيال الحريري، حتى يوم كان القائد الفعلي والميداني لقوى "14 آذار"، في السنوات الأولى بعد الجريمة الزلزال، ولطالما كانت بوصلته واضحة ومحصورة بالنظام السوري، في حين لم يكن الاختلاف مع الحزب يتعدّى الجوانب السياسية المتعلقة بسلاح المقاومة تارة، والموقف من النظام السوري تارة أخرى.

من هنا، فإنّ إفادة "البيك" لم تحمل جديدًا في هذا الجانب أيضًا، كما تقول المصادر، فهي "خيّبت آمال" حلفاء "البيك" السابقين الذين منّوا النفس بـ"قنبلة" من الطراز الرفيع يمكن أن يفجّرها من لاهاي، فإذا بحساباته السياسية الداخلية تمنعها، على حدّ تعبيرهم، وهي أيضًا لم تُرضِ المقرّبين من الحزب، الذين لم يعوّلوا عليها لا سلبًا ولا إيجابًا، لأنهم لا يعطون أصلاً أيّ اعتبارٍ لهذه المحكمة، التي يصفونها بالأداة التي تسعى لتحقيق ما عجزت إسرائيل عن تحقيقه في حرب تموز 2006 ضدّ لبنان.

من هنا، تشدّد المصادر على أنّ الإفادة كانت تكرارًا لمواقف جنبلاط المعروفة والبديهية، وبالتالي فإنّ ما يردّده البعض من أنّ "ما قبل هذه الشهادة لن يكون كما بعدها" لا يمتّ للواقعية بصلة، لأنّ ما قبلها سيكون كما بعدها بطبيعة الحال، ولأنّ شيئًا لم ولن يتغيّر، لا من حيث النظرة إلى المحكمة من قبل مختلف أفرقاء الداخل، ولا من حيث العلاقة التي تجمع هؤلاء الأفرقاء بـ"بيك المختارة".

بين "البزة" و"الجينز"!

في استعراضٍ لأبرز الحيثيات والملابسات المحيطة بالإفادة المطوّلة للنائب وليد جنبلاط، يستوقف المتابع اهتمام المحقّقين، على سبيل المثال لا الحصر، بـ"لباس" جنبلاط وسؤاله عن سبب عدم ارتدائه للبزّة الرسمية في إحدى الصور، ما ردّ عليه "البيك" بأنه "حرية شخصية"، وبأنه دائمًا ما يرتدي "الجينز"، ومن ثمّ اعتقاد المحققين أنهم "حشروه في الزاوية" عند التقاط صورة له بـ"بزّة رسمية"، واستفسارهم منه عن "اللغز" وراء ذلك..

لعلّ هذه الحادثة التي حصلت فعلاً في المحكمة ما يؤشر إلى "الالتهاء بالقشور" الذي بات يحكم عمل محكمة، عجزت عن تحقيق "خرقٍ" بمهمّتها الأساسية، فإذا بها تتحوّل إلى "وقتٍ ضائع"، يتحمّل اللبنانيون للأسف الشديد نفقاته المادية والمعنوية أولاً وأخيرًا...