حسابات كثيرة بدأت تعرض على طاولة المناقشات الداخليّة، فور بدء وفد "التيار الوطنيّ الحر" بعرض اقتراحاته على الأحزاب والكتل السياسيّة، ماذا لو لم يقبل هذا الاقتراح، وقد رفض مرّة حين اقترحه؟ لن يكون رفض الاقتراح هيّنًا كما يرى بعضهم، إذا لم يستند الرفض إلى بديل فعّال يعيد الاعتبار إلى المكوّن المسيحيّ بمعياريه النوعيّ والبيولوجيّ، وإذا ما لجأ الآخرون إلى الرفض بعيدًا عن المناقشة الموضوعيّة بالبدائل، فإنّ الخيار الوحيد المتاح للجميع اللجوء إلى مؤتمر تأسيسيّ يعيد الاعتبار إلى النظام اللبنانيّ السياسيّ يجوهره الطائفيّ-الميثاقيّ.

والاقتراح الذي أطلقه رئيس تكتّل "التغيير والاصلاح" العماد ميشال عون، ودعا الأمين العام لـ"حزب الله" السيّد حسن نصرالله لمناقشته بجديّة، مهجوس بمسألة الميثاقيّة المعطوبة منذ تسعينيّات القرن المنصرم، ويرى مع الرّائين، بأنّ الجوهر الميثاقيّ لا يمكن له أن يتحرّر من معطوبيّته إذا لم يستعد توازنه الدقيق، الّذي يترجم بالمناصفة الفعليّة والخلاّقة، والسياق السياسيّ الحاليّ خال منه، ممّا جعل الطائفيّة متلاشية في امّحاق كامل للمسيحيين، فبلغت الطائفيّة حالة الفوضى المخيفة المهدّدة بالانفجار، ممّا يشي بأزمة مسيحيّة-شبه إسلاميّة تضاف إلى التوتّر المذهبيّ والبنيويّ في المدى الإسلاميّ. ويدرك معظم المسؤولين السياسيين من كلّ الأطراف والأطياف، أنّ الأزمة بهذا التوصيف الدقيق ليست أزمة نظام مترجرج ومختلّ، أو أزمة حكم يعيش في مأزق بسبب الفراغ في رئاسة الجمهوريّة، وتحوّل 24 وزيرًا إلى 24 رئيسًا، بل هي أزمة وطن ذبيح ونازف، وأزمة وجودات كيانيّة تتصارع بصورة مذهبيّة أو بنيويّة. وإذا ساغ الإيغال بعض الشيء، إن تلك الأزمة ليست حديثة في مداها الزمنيّ، بل تداعت مفرداتها وتدحرجت نيرانها وتناثرت إرهاصاتها منذ أن طبقّ اتفاق الطائف بحلّته التسوويّة غير المحليّة، بل الأميركيّة-السعوديّة-السوريّة، وأمسى بالحلّة عينها السياق والإطار الذي أدى إلى تسليم لبنان بمكوّناته إلى السوريين، كجائزة ترضية أو كثمن لدخول سوريا مع الرئيس الراحل حافظ الأسد شريكًا في حرب تحرير الكويت من صدّام حسين. وفي واقع الحال، إنّ اتفاق الطائف لم يخلق لكي يعيش، بل ولد ميتًا، ومأساة الرئيس السابق للمجلس النيابيّ حسين الحسيني، أنّه مدرك لهذه الحقيقة باصطفافها، ولكنّه ارتآها مخرجًا تسوويًّا في ذلك الحين، في مشهد التحوّلات الكبرى الذي بلغته المنطقة حتى لا يقع لبنان أسير الفراغ الكيانيّ، ومع ذلك وقع به وبات أسيرًا له.

وعلى الرغم من هذا التشخيص السلبيّ، لا يرى "التيار الوطنيّ الحرّ" أنّ الطائف هو المشكلة. فالنصوص الدستوريّة المنبثقة منه واضحة في إقرار المناصفة الفعليّة، من المادة 24 إلى المادة 95 منه. الطامة تكمن في عدم التطبيق سواء على صعيد قانون الانتخابات وهو مستو في البنود الدستوريّة، أو على مستوى انتخاب رئيس للجمهوريّة أو تأليف الحكومة وآليّاتها. الطائف ليس كلّه سيّئًا، السيّء فيه أنّه أخلى رئاسة الجمهوريّة من صلاحيّات جوهريّة وأعطاها لمجلس الوزراء مجتمعًا. لذلك المسألة ليست في النصوص بل هي في الإطار التوظيفيّ لها بالمعنى السياسيّ والأمنيّ، وفي مضمون استهلاكها عند من ثبتها على الأرض اللبنانيّة من الدول الراعية، وقد شاءتها منطلقًا واضحًا لإفراغ لبنان من مضمونه السياسيّ القائم على الديمقراطيّة التشاركيّة، وقضمها من وصاية ما لبثت أن تحوّلت بعد سنة 2005، أي بعد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري إلى مجموعة وصايات تتصارع في لبنان وعليه كما في الإقليم المتوتّر وعليه.

ما يجدر فهمه من ضمن السياق المذكور، بأن العلّة ليست في الطائف، بل في الإطار التكوينيّ أو التأسيسيّ له الذي تمزّق في إطار الصراع السوريّ-السعوديّ منذ 2011. تأسس على توافق الدولتين وبرعاية أميركيّة، ويسير اليوم في قلب الصراع بينهما، فكيف له أن يعيش ما دام مؤسسوه في احتراب؟! لكنّ الأمر الذي بقي سائدًا بالممارسة الفعليّة والواقعيّة قضم حقوق المسيحيين وإبقاؤهم تحت هيمنة الطوائف الأخرى، لا قرار لهم. اهميّة ما طرحه العماد ميشال عون ينطلق من أنّ مسيحيي لبنان هم الجرح غير المندمل، وفي تساؤل بسيط ينبغي طرحه وببساطة كاملة، إذا لم يستطع المسيحيون أن يقلبوا الطاولة في مسألة ردم الحوض الرابع في مرفأ بيروت، فأنّى لهم أن يستعيدوا القرار؟! ويظهر هذا الأمر هشاشتهم أنهم في مسألة صغيرة وجزئيّة كهذه يفتقدون إلى قدرة قلب الطاولة على فاعلي الفساد ومروجيه باستعادة دورهم، فكيف إذًا يتصرّفون في المسائل الكبرى والدقيقة للغاية؟

ففي أثناء الحقبة الحريرية عانى المسيحيون من التلاشي، لا يستطيع أحد أن يكذّب إرادة رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري في تجسيد هذا العنوان وتحقيقه، وظهر ذلك على وجه التحديد بصوت الرجل خلال محادثته مع وزير الخارجية السوري وليد المعلّم، في التمييز بين المتطرفين والمعتدلين واصفًا العماد ميشال عون والشهيد جبران تويني وصولانج الجميل بالمتطرفين، وغطاس خوري وروبير غانم بالمعتدلين. وفي الزمان الراهن لم يتغيّر هذا الشعور بفعل الممارسة الواقعيّة، وهو متولّد من التفاصيل الصغيرة في قطاعات عديدة من المواقع الصغيرة وصولاً إلى العناوين الاستراتيجيّة الكبرى وفي المواقع الأساسيّة، ومنها ملفّ التعيينات العسكريّة والأمنيّة ومنها إلى مسألة رئاسة الجمهوريّة.

ويطرح بعضهم سؤالاً: هل يحقّق اقتراح عون التسوويّ التوازن الميثاقيّ المطلوب، وماذا لو رفض؟ يقول الجاحظ وهو كاتب عربيّ عاش في العصر العباسيّ: "المعاني مطروحة في الطريق". المعاني مطروحة وممدودة للاقتباس والنقاش والتفاعل. اقتراح العماد عون جديّ، وأوساط الرابية مدركة بأنّه محفوف بمخاطر الإجهاض بالحدود القصوى، وبحال لفظه كاقتراح يعيد الحالة اللبنانيّة إلى حقيقتها الميثاقيّة والمتوازنة، فالبديل جاهز عند عون وحزب الله، أي الولوج في قراءة تعديليّة للطائف أو تأسيسيّة للنظام السياسيّ اللبنانيّ، يجسّد الميثاق اللبناني بعقد اجتماعي وسياسيّ يعيد الاعتبار للدور المسيحيّ المفقود والمتلاقي مع كلّ مكوّنات لبنان في سياق وطنيّ واحد.

يقول وزير مسيحيّ سابق في هذا الخصوص: "لن نأسر لبنان في فراغات تتراكم على أرضه المحترقة في ظل عاصفة هوجاء في المحيط، لن نقبل بمحق المسيحيين فيما هم يهجّرون ويقتلعون من العراق وسوريا، ويتماهى محقهم في لبنان مع اقتلاعهم من المحيط، لا يجوز للبنان أن يبقى أرض لجوء للسوريين والفلسطينيين ليتحولوا إلى قنابل موقوتة تفرز الإرهاب وتنفجر تباعًا... لبنان يمرّ بخطر شديد، والمسيحيون فيه مهدّدون حتى الزوال..." ويختم قائلاً: "إن المعركة القادمة المتوازية مع معركة القلمون وعرسال، هي معركة استعادة لبنان مع استعادة الموقع المسيحيّ الأوّل برئيس يحقّق رجاء المسيحيين بالعيش السليم والكريم مع كلّ الشرائح اللبنانيّة، بشراكة غير منقوصة، تبقيهم منارة لوطن النجوم ولمشرق عربيّ ينتظر أن يولد من رحم التمزّق والأحزان جديدًا".