عند كل تغيير اساسي مهم في المنطقة، يقف لبنان متأهباً لاجراء تغييرات جذرية على بنيته وطبيعة مسيرته السياسية. ففي العام 1943، تغيرت الامور في المنطقة ونال لبنان استقلاله، وبقي على القرارات السياسية عينها حتى العام 1975 حين اندلعت الحرب وفرضت ميثاقاً واقعياً ميدانياً وامنياً وطائفياً و.... انهى مفاعيل الميثاق الذي انشىء عام 1943.

بقيت الامور على حالها في المنطقة وتدهورت في لبنان حتى العام 1989 حين تم الاتفاق على الانطلاق بمرحلة جديدة في الشرق الاوسط، وكان لبنان كالعادة السبّاق في حصد نتائج هذا التغيير، فكان ​اتفاق الطائف​ الذي ادخل لبنان بمسار جديد بقي حتى يومنا هذا.

منذ سنوات قليلة، تشهد المنطقة غلياناً في الكثير من دولها فيما استمر لبنان يعاني من تداعياتها انما بالحد المقبول لان الصدف شاءت ان تحصد الدول العربية المجاورة نتائج التغيير المرتقب لما اتفق على تسميته "الشرق الاوسط الجديد". وعلى الرغم من انه لم يكن الاول في سياق سباق التغيير، الا ان لبنان سيكون حتماً ضمن راكبي هذا القطار.

من هنا، قد يكون رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون يعمل على ان يسبق غيره من السياسيين والمسؤولين في طرح ما لا يمكن تفاديه وهو ميثاق وطني جديد يكون الثالث، على ان يمتد لعقود من الزمن ريثما تحل معطيات جديدة تؤدي الى وضع ميثاق آخر. وعلى الرغم من نفي الجميع بمن فيهم تكتل "التغيير والاصلاح" البحث أي ميثاق جديد، الا ان النية المختلفة او الخطوة الاولى المطلوبة ستوصل حتماً الى هذا الميثاق.

ولكن طرحه لا يعني حكماً القبول والسير به من قبل الجميع، او ان الارضية باتت جاهزة للاخذ به، لذلك بدأ العمل على توسيع الفكرة دون ان يعني ذلك البدء بعملية تنفيذها او وضع مسودة لها.

قد تتغير المواثيق ولكن العقبات في لبنان تبقى على حالها، ففي ظل غياب انتصار واضح واكيد لداعمي الاحزاب والتيارات من الخارج، لا يمكن لاي حزب او تيار ان يقبل بالتنازل ولو عن مكتسب بسيط قبل ان يتأكد بما لا يدع مجالا للشك ان داعميه قد عانوا من خسارة سياسية ومعنوية تفرض عليه القبول بالتنازل.

حكي الكثير عن بنود سيتم وضعها في الميثاق الجديد، الا انها بقيت مجرد كلام لا اكثر، من المثالثة الى صلاحيات المناصب الرفيعة في الدولة، الى حقوق الطوائف وغيرها من الامور... لا احد يمكنه ان يعرف ما سيتضمنه هذا الميثاق، ولكن الاكيد انه ستكون لايران اليد الاكبر فيه، تماماً كما كان للسعودية اليد الطولى في اتفاق الطائف. والفارق المهم يكمن في عامل الزمن، لانه في ذلك الوقت كانت سوريا نقطة التقاء اقليميّة ودولية لتولي الشؤون اللبنانية المتغيّرة، ولكن دمشق حالياً مشغولة بأمور اخرى وقد تكون نقطة انطلاق الوجه الجديد للمنطقة، ولا يمكن بالتالي توكيلها رعاية شؤون اللبنانيين.

وفي ظل غياب اي دولة مجاورة يمكنها تولي هذه المهمة، قد تشكل الثنائية السعودية-الايرانية الحل الانسب، وهو ما يفترض بالتالي تقديم تنازلات من قبل السعودية في المنطقة وتنامي "صلاحيات" ايران، وسينعكس الوضع ايضاً على لبنان حيث على الاحزاب والتيارات التي تعتمد على الرياض القبول ببعض التغييرات التي ستصب حتماً في خانة الاحزاب التي تعتمد على طهران.

هذا الامر لن يعني بطبيعة الحال سيطرة مطلقة للطائفة الشيعية على السنية مثلاً، لان اي خطوة من هذا القبيل لا يمكن تحقيقها في لبنان، وهو ما اختبرته الطائفة المسيحية في الميثاق الاول، والطائفة السنية في الميثاق الثاني، وما ستختبره الطائفة الشيعية في الميثاق الثالث.

وبين هذا وذاك، تبقى الطائفة المسيحية تسير على جسر خشبي وتتمسك بالحبلين السعودي والايراني، وتحاول ان تكسب اكبر قدر ممكن من الصلاحيات والحضور على الساحتين السياسية والعملية، وقد توفق في مسعاها اذا ما تمكنت بالفعل من معرفة مقدار الخطر الذي يتهددها، كما ان دورها في لبنان لعقود من الزمن سيكون مرهوناً بما ستتمكن من انجازه ضمن بنود الميثاق الجديد.