- في ظلّ ما تشهده سورية من تصاعد في الحرب والتطورات الدرامية التي ترافقها على جبهات القتال، مما يريد له حلفاء واشنطن أن يظهر كأوراق اعتماد لهم لإقناع البيت الأبيض بالعودة إلى خطط التدخل لإسقاط الرئيس السوري بشار الأسد، وعدم الاكتفاء بإرضائهم بالحديث عن اللاشرعية واللامستقبل في الحلّ السياسي، كان يتقدّم من بين هؤلاء الحلفاء كلّ من السعودية وتركيا خصوصاً، لتقول عبر إعلامها إنّ ما يجري يعني قرب ساعة سقوط سورية، وكان واضحاً أنّ ما بعد السقوط لا يعني السعوديين والأتراك، بقدر ما يعنيهم التخلص من الأسد، كما كان تعاونهما مع قطر في ليبيا بقبول ورضا أميركيين، له هم واحد هو ليلة الاحتفال بالنصر على الرئيس الليبي معمر القذافي، ولتذهب بعدها ليبيا إلى أيدي العفاريت، وليذهب الأمن الأوروبي والإقليمي إلى الجحيم، ولتسقط ليبيا كالفاكهة الناضجة في يد تنظيم «القاعدة».

- في هذا التوقيت الذي تبدو فيه الابتسامات الصفراء على وجوه السعوديين والأتراك، كانت التقارير الاستخبارية على طاولة الرئيس الأميركي ومثلها على طاولة الرئيس الروسي، تنقل بالتفاصيل المعلومات عن حجم التورّط التركي والسعودي في ما ينسبونه إلى المعارضة السورية، وعندما يُقال لهم لكنها «النصرة» و«داعش»، يبدأون بالحديث عن تمييز بين الطرفين، وينتهون بالمهمّ وهو أنّ الوضع في سورية يزداد سوءاً، وعندما يطالَبون بتفسير وصول أسلحة نوعية إلى أيدي «النصرة» و«داعش»، يقولون إنّ السبب هو ما تمّ السطو عليه من مستودعات الجيشين السوري والعراقي، ولكون السلاح المعنيّ من منشأ غربي وأميركي خصوصاً، طالبت موسكو واشنطن بتحقيق تودع نسخة عنه حول الأرقام التسلسلية لصواريخ مضادة للدروع، وقعت منصاتها في يد الاستخبارات الروسية، بعد استخدام «داعش» و«النصرة» لها، وهل هي نتاج قرار أميركي شبيه بحرب أفغانستان بتسليح «القاعدة» ضدّ الجيش السوفياتي يومها بصواريخ ستينغر التي لعبت دوراً حاسماً في الحرب، طالما أنّ الصواريخ لم يتبيّن لأرقامها وجود في مستودعات الجيش العراقي وما تسلمه من مساعدات أميركية.

- كانت موسكو تنتظر ردّ الفعل الأميركي لتعرف خطوتها اللاحقة، ففوجئت خلال ثماني وأربعين ساعة، بوصول دانييل روبنشتاين مساعد وزير الخارجية الأميركي، المكلف بالملف السوري للقاء مساعد وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف، المسؤول عن ملفات الشرق الأوسط، وحمل روبنشتاين الجواب، لقد تمّ شحن الصواريخ من المستودعات التركية والقطرية والسعودية والإماراتية، ويبدو أنّ الأعداد بالمئات من المنصات مع ذخيرة كافية، ليسأل بوغدانوف محدّثه الأميركي عما إذا كان مشغلو الصواريخ من «النصرة» و«داعش» أم خبراء تدرّبوا في واشنطن من جيوش الحلفاء، ليجيب روبنشتاين هناك مئات من رجال الكوماندوس السعودي والإماراتي والتركي والقطري يقاتلون فوق الأراضي السورية، من ضمن تشكيلات «النصرة» و«داعش»، والأسلحة والمعدّات والأموال المرصودة لهذه المهمات تدعو إلى الدهشة، بما يفعله هؤلاء المجانين.

- بعد مشاورات دامت يومين غادر روبنشتاين موسكو متوجهاً إلى أنقرة والرياض، لمهمة قال عنها بوغدانوف إنها لحث القوى الإقليمية على توظيف نفوذها للدفع في اتجاه الحلّ السياسي في سورية، وتشجيع السوريين على حوار سوري سوري يمهّد لجنيف، لأنّ واشنطن وموسكو تتشاطران القلق من تنامي الإرهاب ومخاطر تمدّده، وبعد زيارة روبنشتاين إلى عواصم المنطقة حدث ما حدث في تدمر، فخرج بوغدانوف ليقول:

- «الآن زملاؤنا الأميركيون أدركوا شيئاً واحداً، أنه لا بديل الآن عن الرئيس بشار الأسد والحكومة الحالية. وإذا حصل معهم شيء ما، فإنّ السلطة والأراضي السورية بالكامل سيأخذها المتطرفون والإرهابيون، وستكون صومال الثانية، أو ليبيا الثانية، وهذا سيناريو خطير للغاية».

- يعرف المتابعون لملف العلاقات السورية ـ الروسية أنّ مواقف بوغدانوف لم تعكس يوماً ما يوحي بالتعصّب لبقاء الرئيس الأسد، وهو الذي نقل عنه مراراً كلاماً أثار استغراب دمشق، واستدعى صدور توضيحات روسية مباشرة أحياناً وغير مباشرة أحياناً كثيرة، وما قاله ليل أمس ليس كلاماً جزافاً ولا انفعالاً عاطفياً، إنه مضمون التفاهم النهائي على مستقبل الخريطة في سورية، تفاهم سيترجم في السياسة والسلاح، وفي تطورات الحرب في سورية، سيشهد ترجماته ومعانيه وتداعياته، الذين يهللون لما جرى في تدمر وما جرى قبله في إدلب وجسر الشغور، أو ما قد يجري في أيام قليلة مقبلة، قبل أن تبدأ التغييرات الجذرية بالظهور تباعاً.

- موسكو من اليوم وصاعداً مسؤولة عن تنفيذ هذا التفاهم، بتقديم الدعم التسليحي والتقني الذي يسمح للجيش السوري بتعطيل مفعول السلاح الأميركي المسرّب إلى «داعش» و«النصرة» من الخليج وتركيا، واسترداد زمام المبادرة في الجبهات التي شهدت الهجوم التركي السعودي المعاكس، وهي بدأت بخطوات تنفيذية لهذه المهمة.