في 25 أيار من العام الفائت تغيّر شيءٌ ما في قصر بعبدا. من كان يستعجل رحيل ميشال سليمان يتساءل اليوم: هل أخطأت؟ كثيرًا ما يقنع نفسه بالجواب: فخامة الشغور مهما طال خيرٌ من سليمان. عامٌ مضى، الشغور بطل 365 يومًا قابلة للتمديد الى ما شاء صانعوه ومغذّوه.

أبو الشغورات هو ذاك الذي يستوطن قصر بعبدا اليوم في التاريخ اللبناني غير الملوّث بالدماء. عناصر التركيبة ضائعة، تائهة، غارقة في سيناريوهاتٍ عدة تكشح على فوضويّتها النظر عن جوهر القضيّة: جلساتُ انتخاب معطلة، ضغطٌ في بكركي، حراكاتٌ على خطوط خارجيّة، حواران يحاولان إيجاد المنافذ، وحكومة تتخبّط بصلاحياتٍ مزدوجة منها تلك الحسّاسة التي أناطها الدستور بها بعد شغور الموقع الأول.

لم يكن مسيحيًا...

في ذاكرة ذاك الأيار الفائت وبعده حزيران وربما تموز وآب، لم تكن الرئاسة اللبنانية موضوعًا مسيحيًا، ولا كانت مسؤولية إنهاء الشغور مسيحيّة بقدر ما كانت حكاية وطن فقد رأسه ويبحث عن رأس بديل يتناسب ورؤوس الجميع. في تلك الأيام والأسابيع والأشهر الأولى لم يعنّ “الموّال التوافقي” على رأس أحد. دخل فريق 8 آذار أولى الجلسات التي لم تتوالد بعدها جلسات وفي رأسه قناعة واحدة: لن نكرّر تجربة ميشال سليمان؛ فليسقط الرئيس التوافقي. مذاك الوقت والفريق المقاطع للجلسات يبحث عن منافذ ترتقي بمرشّحه الأوحد الذي كثيرًا ما تداولت الكواليس الداخلية والخارجية اسمَه بلا ملموساتٍ حتى الساعة: ميشال عون. عماد الرابية الذي وُعِد بكرسي بعبدا في صفقةٍ مُحكمة تعيد الرئيس سعد الحريري الى السلطة التنفيذيّة وتحقّق للعماد في عيده الثمانين أمنيته التي لا تفارقه: بعبدا. خاب الرجل بعدما احترقت الطبخة السعودية بفعل فاعل، لا بل بفعل همسٍ جنبلاطي على ما يقول العونيون عن قناعة. منذ سقوط براعم تلك الصفقة لم يغِب اسمُ العماد عن لوائح المرشّحين الفرضيّين تمامًا كما لم يتقدّم على سواه حدّ الإيحاء بأن الرجل سيهجر وزوجته ناديا منزل الرابية أقله لستّ سنوات.

على الورق...

اليوم لا تؤمن الرابية بالحلول البديلة “المتحايلة” على ذكاء عمادها وشيبته وخضرمته. تفهم جيدًا عندما يُقال أن شامل روكز قد يصل الى اليرزة أن حظوظها الرئاسيّة باتت شبه معدومة، ومع ذلك لا يغيب الأمل. هكذا تمضي أماني البرتقاليين، كأن شيئًا لا يحصل من حولهم، يكملون حوارهم مع القوات اللبنانية بعرض نقاطٍ جوهريّة من قبيل قانوني الانتخاب والجنسية ومقاطعة التشريع، وفي المقابل يطرحون مبادرتهم الرئاسية القديمة-الجديدة التي تمنح الشعب سلطة انتخاب الرئيس. ليس ما تشتهيه الرابية في أحلام سيّدها التي قد تكون كوابيس في أسرّة أخرى هو ما يُناقش أنى كان. على الورق الدكتور سمير جعجع هو مرشّح 14 آذار في الجلسات-المسرحيّات التي لا ينتفع من نوابها الحاضرين سوى أصحاب الرزق في الوسط من مطاعم ومقاهٍ، وفي مخيّلة وليد بك الواسعة -التي يبدو أنه سيورثها الى ابنه تيمور الصاعد سياسيًا- هنري حلو ما زال مرشّحًا جديًا، ولا تراجع عن هذا الخيار إلا لصالح مرشّح يبارك الجميع وصوله فيستسلم جنبلاط ويعتذر شديد الاعتذار من حلو المنتشي بلقب “مرشّح رئاسي” في منافسةٍ شريفة مع جعجع.

يوم غسل يديه...

هي أشهرٌ على الشغور قبل أن يلعبها الرئيس سعد الحريري “ذكيّة”... أجاد غسل يديه من التسويف فرمى الكرة من فرنسا أمام أبي الموارنة في ملعبهم. تحوّلت الرئاسة همًا مسيحيًا. بات على الراعي أن يحمل صليبها ويسير به في كلّ دروبه القريبة والبعيدة. استنجد بفرنسا أخيرًا وقبلها ببعض الموفدين الذين أمّوا صرحه بلا نتيجة. لم يبقَ له سوى أمل الفاتيكان الذي يسمعه ولا يكذب عليه أمام الله وممثليه على الأرض. تحرّك البابا شخصيًا، فضغط في غير مناسبةٍ على سفراء دول فاعلة، لم يعفِ الشغور من بعض عظاته، لم يعفِ سفيري السعودية وإيران، أرسل موفديه الى لبنان علّهم يرمون حجرًا في ماءٍ راكد آيل الى الجفاف. حتى الساعة وبالمعلومات الطفيفة المتوفرة عن ثمار أي تحركٍ فاتيكاني لا نتائج أفضل من تلك التي حملتها سابقًا جولات المؤسسات المارونية الثلاث على الزعماء أجمعين.

حبال...

أشبه بدميةٍ تخنقها حبالٌ من كلّ الجهات غدت رئاسة بعبدا. حبالٌ تربطها بمواعيد وأحداث لا تمتّ اليها بصلة ومع ذلك على اللبنانيين أن يتفاءلوا بها. حبلٌ يربطها بحوار حزب الله-المستقبل. حبلٌ يربطها بحوار الرابية-معراب. حبلٌ يربطها بضغوطٍ يمارسها الفاتيكان. حبلٌ يربطها بحراكات المبعوثين الدوليين. حبلٌ يربطها بمجريات الأمور في المنطقة وخصوصًا في سورية. حبلٌ يربطها بالاتفاق النووي الإيراني في حلول أواخر حزيران المقبل. حبلٌ يربطها بمبادراتٍ داخلية وآخرها تلك التي استنبطتها الرابية. حبلٌ يربطها بالتعيينات الأمنية الجديدة وبالسلة المتكاملة. كلّ تلك الحبال التي تكون حتى يوم الاثنين قد خنقت الرئاسة عامًا كاملاً لم ينقطع واحدٌ منها تمامًا كما لم يرسخ واحدٌ منها.

“الحقّ مش عالشغور”

ليست البلاد بعد عام على ما يُرام ولا تعرف مذاك الحين أن تهنأ بحياةٍ ورديّة لم تعتدها أصلاً سوى في فترات ما بعد الاستقلال قبل اشتعال الحرب الأهلية. ذاك التنغيص ليس مردّه الى الشغور وحده، لا من باب التبخيس بدور الرئيس بل من باب منطقيّة تسيير الأمور في غيابه بعدما سحب الطائف صلاحياته منه. ذاك التنغيص المرتبط حكمًا بغياب الرئيس ولو بصورةٍ غير مباشرة تعايش الحكومة أكثر فصوله قساوةً. “الحقّ مش عالشغور” ولا هو السبب في عدم تجانس يستوطن حكومة الرئيس تمام سلام. تلك الحكومة التي تكافح بكلّ أسلحتها للبقاء خشية شلّ البلاد كليًا، يلعن رئيسها ووزراؤها ساعة نقل الصلاحيات الرئاسيّة اليهم بعدما التمسوا صعوبة التعامل معها أمام تنافر سياسي يعززه “ناظرٌ” دستوري يترك للرئيس وحده هامش التصرّف بصلاحياتٍ ذات طابع شخصي، ويمنح الحكومة حقّ التصويت بالإنابة من دون وضوح في آلية إقرار المراسيم بميثاقيّة تامة.

أشباحٌ تطفئ الشمعة

هي سنة أولى من الشغور، تتمّم ساعاتها بسوء فهم ووضوح لما آلت اليه كلّ تلك الأيام الضائعة. بعضهم يسرّب -على ذمّته- أن الأسماء التوافقيّة الوسطية عادت الى البورصة الرئاسيّة. لا علم ولا خبر لدى أحد. اليقين لا مكان له في قصرٍ يطفئ أشباحُه شمعة فخامته غير الاعتيادي الأولى، فيما يتمتم المنتشون على اختلاف حساباتهم: سنة حلوة يا شغور!