تعاظمت قوة حزب الله بعد عام 2000، وباتت أحد المؤشرات على التحوّل في النظام الإقليمي، فهذه القوة غير الدولتية، باتت تؤدّي دوراً يفوق قدرات الدول من حيث التأثير في المعادلات الإقليمية.

عاش حزب الله منذ عام 2000 إلى عام 2005 مرحلة ذهبية، لكن هذه المرحلة أصيبت بانتكاسة مع صدور القرار 1559 الذي طالب بالخروج السوري من لبنان وسحب سلاح المقاومة ما أدّى إلى انقسام اللبنانيين، واغتيال الرئيس رفيق الحريري الذي كان بداية أزمة طويلة عصفت بالوضع اللبناني وفجرت التناقضات المذهبية. في عام 2006 وقع عدوان تموز وانتصر حزب الله على «إسرائيل»، وزاد من قدراته الاستراتيجية على مستوى الصراع مع العدو، لكنه اصطدم بالانقسام اللبناني وعدم الاستقرار في لبنان، الذي تفاقم مع انفجار الأزمة السورية ودخول المنطقة في نفق من التحولات الكبرى، واضطرار حزب الله إلى قتاله ضدّ المشروع التكفيري في سورية إلى جانب دوره في مقاومة العدو «الإسرائيلي». بات حزب الله في قلب معركة حقيقية وخطيرة، عبّر عنها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله «نكبة المشروع التكفيري» هي النكبة الأخطر والأكبر التي تواجهها المنطقة اليوم.

شكل انتصار المقاومة في عام 2000 حدثاً استراتيجياً وعسكرياً مدوياً، كان بمثابة الصفعة البالغة الألم لأرباب المشروع الأميركي- «الإسرائيلي»، ففي حين اعتبرت أميركا أنّ أبواب العالم فتحت أمامها لإقامة النظام العالمي الجديد الأحادي القطبية، وأنّ الشرق الأوسط بات مستعمرة لها عبر ثلاث حروب متتالية افتعلتها حرب الكويت 1991، حرب أفغانستان 2001، حرب العراق 2003 ، ظهر حزب الله وتالياً محور المقاومة «مكوّناً نشازاً» على المحور الذي تقوده أميركا.

لذلك انصبّ الجهد الأميركي على معالجة الحالة «النافرة»، فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، أتت دول العالم منبطحة إلى الولايات المتحدة باستثناء سورية وإيران وحزب الله وبعض المقاومة الفلسطينية، الذين تمسّكوا بمبادئهم وقرارهم المستقلّ خلافاً لما تريده أميركا.

لأجل ذلك، وضعت الولايات المتحدة الخطة تلو الخطة لمعالجة هذه الحالة، ووضعت لكلّ مكوّن من هذه المكوّنات خطة الحرب التي تناسب طبيعته. وكان نصيب حزب الله من الخطة الأميركية، خطة تقوم على أربعة عناصر:

إظهاره تشكيلاً إجرامياً وليس مقاومة. وترجم ذلك باتهامه باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.

إظهاره حركة طائفية مذهبية، وليس حركة مقاومة وطنية قومية، فنصب له فخ 5 أيار 2008.

إظهاره بأنه أداة عدوانية على الشعوب العربية، وليس أداة لتحرير هذه الشعوب.

خطط الغرب للعدوان على محور المقاومة في البوابة السورية لإجبار حزب الله على واحد من أمرين: إما أن يتجنّب المواجهة ويجد نفسه محاصراً، أو أن يدافع عن هذا المحور ويجد نفسه في مواجهة الإرهاب الذي يسمّونه «ثورة»، وهذا ما فعله.

اللجوء إلى سياسة الشيطنة وإسقاط الهيبة عن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، من أجل دفعه إلى الردّ بالطريقة ذاتها بعيداً من التركيز عن القضية الأصل.

خصّص للحرب الإعلامية التي شنّت على حزب الله على مدى سنتين تحت هذه العناوين الأربعة 500 مليون دولار لشراء الأقلام والفضاء الأسود.

في المقابل، لم يكن حزب الله يملك القدرة الكافية لمواجهة الحرب عليه، فوقع الرأي العام العربي والإسلامي ضحية لهذه الحرب، لكن لم يصل أصحاب المشروع المعادي للمقاومة لما يبتغونه من حربهم، إذ لا تزال شرائح كبيرة تتمسّك بالمقاومة باعتبارها علامة مضيئة في تاريخ الأمة.

لكن السؤال، هل أنّ المقاومة وصلت إلى السقف الأعلى الذي يمكن أن تبلغه، ما يعني أنها ستحكم بالتراجع بعد ذلك، أم أنها مستمرة في تطوير الذات وتفعيل القدرات ومواصلة المسيرة.

تختلف مقاومة حزب الله عن معظم المقاومات في التاريخ، فالمقاومة عادة تنطلق لمواجهة احتلال وتنتهي بالتحرير وزوال الخطر، أما مقاومة حزب الله فإنها نشأت لمواجهة احتلال ومقاومة مشروع أميركي «إسرائيلي» استعماري. وأدّى نجاحها في التحرير إلى التمسك بالمحور الإقليمي الذي دعمها، بالتالي لم يعد مصير المقاومة مرتبطاً بالحدث الآني أو العابر أو المقيم الاحتلال بل بمواجهة مشروع متماد استعماري، ولهذا نرى أنّ المقاومة مستمرة ما استمرّ الخطران الإرهابي و«الإسرائيلي»، وملزمة بتطوير الذات ما استلزم الخطر المتشدّد مثل هذا التطوّر.

ويؤكد رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق الدكتور عبد الحليم فضل الله لـ«البناء» «أنّ نقطة من نقاط قوة حزب الله أنه لا يفصح ولا يعبّر عما يملكه من قدرات وإمكانيات عسكرية وميدانية إلا ضمن حدود مدروسة، خصوصاً في مواجهة العدو الإسرائيلي».

ووفق فضل الله، فـ»إنّ أداء حزب الله العسكري وقوته العسكرية تطوّرا على وقع الإنجازات المختلفة. فإذا عدنا إلى ما قبل عام 2000 مع بدايات عام 1982 وما بعد، ظهر حزب الله كردّ فعل على الاحتلال «الإسرائيلي»، وتمكّن من تحويل المقاومة من مجرّد مقاومة مجموعات صغيرة قادرة على إزعاج العدو، إلى مقاومة منظمة تعمل ضمن استراتيجية واضحة في عام 1991، طوّرت المقاومة أداءها وصولاً إلى التحرير».

ما بعد التحرير كانت العلامة الأبرز، بات حزب الله بحسب فضل الله يقوم بثلاث وظائف:

الوظيفة الأولى: قوة ميدانية وعسكرية كانت موجودة سابقاً تعمل على تحرير ما تبقى من الأرض اللبنانية قوة تحرير وعمل مقاوم .

الوظيفة الثانية: قوة الدفاع في مواجهة أطماع «إسرائيل».

الوظيفة الثالثة: قوة ردع قادرة على إقامة توازن، هذا التوازن الذي يمنع العدو «الإسرائيلي» من استهداف «الجبهة الداخلية» بحرية من دون أن يلغي الجزء الرادع.

كانت قوة حزب الله بحسب فضل الله «قوة مقاومة من أجل التحرير عبر الضغط وإلحاق الخسائر بالعدو وعبر فرض أثمان عليه لقاء استمرار احتلاله، ليتحوّل إلى قوة ردع وقوة مقاومة وتحرير وقوة دفاع، وصولاً إلى تطوّر وتبدّل ميزان الردع. فبعدما كانت المقاومة تشكل في البداية ميزان توازن رعب، بمعنى أنّ العدو يخشى تبعات استهداف لبنان بما يعرّض جبهته الداخلية إلى المخاطر والأضرار والخسائر، تحوّلت إلى ميزان ردع، وإلى قوة موازية للعدو الإسرائيلي».

يقول فضل الله: «إنّ هذا الأمر برز إلى العيان عام 2006 عندما تمكنت المقاومة من الدمج ما بين روحية وتكتيكات العصابات وحروب المقاومة واستراتيجيات الجيوش النظامية».

وتمكّنت المقاومة، وربما هذا الأمر فاجأ الكثيرين، ليس فقط في منع العدو من التمركز في مناطق وأراضٍ ومساحات استولى عليها إنما منعته من الاستيلاء على مساحات الأرض، وهذا يعدّ تطوراً نوعياً وقفزة نوعية اكتشفت في حرب تموز 2006.

أرغمت المقاومة العدو على الخضوع إلى ميزان الردع وميزان القوة الذي فرضته، والإنجازات الكبرى التي حققتها المقاومة كانت نتيجة تراكم الخبرات وتراكم وتطوّر استراتيجيات وتكتيكات. فهي وضعت استراتيجية للتحرير، وللردع ، وللدفاع عن لبنان، وأخذت في الاعتبار أوضاع وظروف مجتمع المقاومة، بحسب رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق.

حزب الله سخر طاقته الهائلة من أجل لبنان

لم يخض حزب الله حرباً ذات أهداف أكبر من قدرة لبنان على تحمّلها، إنما سخر هذه الطاقة الهائلة غير المسبوقة ربما، خلال العقود الأخيرة في تاريخ الصراع العربي «الإسرائيلي»، من أجل لبنان، لكن ضمن القدرات اللبنانية وبناء على القدرات اللبنانية واستناداً إلى إجماع لبناني، بحسب فضل الله.

جمع حزب الله بين ثلاثة أمور…

القوة العسكرية

الروحية الجهادية الاستشهادية التي تسعى إلى النصر والشهادة.

عقلانية الاقتصاد في استعمال القوة كما يجب وحيثما يجب وبما يتناسب مع الأهداف.

ربما تكون بحسب فضل الله، «الإضافة الأساسية التي قدمتها المقاومة اللبنانية وحزب الله بتجربة المقاومة تتمثل بأداء عقلاني يأخذ في الاعتبار الإمكانات والحاجات ويسخرها بطريقة دقيقة في سبيل الأهداف».

شرعية المقاومة تستند إلى اتفاق الطائف

حرصت المقاومة، كما يقول فضل الله، على «بناء الإجماع الداخلي الذي تستند إليه في عملها المقاوم في مواجهة الاحتلال. هذا الإجماع تحول إلى إجماع سياسي منصوص عليه في البيانات الوزارية، هذا فضلاً عن أن شرعية المقاومة تستند إلى اتفاق الطائف والشرعية العالمية لحقوق الإنسان وميثاق الأمم المتحدة، لكنها كرّست هذه المرجعية السياسية في الداخل ودافعت عن هذا الإجماع الذي لم يُبن عام 2000 وعام 2006، إنما بني عام 1990 عندما خرج لبنان من الحرب الأهلية ودافعت المقاومة عن هذا الإجماع الذي اتفق عليه جميع اللبنانيين. فواحدة من البنود التي اتفق عليها اللبنانيون بعد الحرب الأهلية هي استمرار المقاومة في سبيل التحرير والدفاع عن لبنان. ما قامت به المقاومة في الداخل اللبناني على الصعيد السياسي والصعد الأخرى، قامت به دفاعاً عن هذا الإجماع، وهو إجماع أسّس للجمهورية الثانية، وأيّ عمل قامت به المقاومة في الداخل، إنما كان هدفه الدفاع عن هذا الإجماع الذي أسّس للجمهورية الثانية التي انبثقت من الطائف والتي عبّرت عن رغبة اللبنانيين بإنهاء الحرب الأهلية التي استمرت 15 عاماً».

ما قامت به المقاومة ولا تزال بحسب فضل الله، هو «بسط مظلة لحماية الإجماع اللبناني وللدفاع عن هذا الإجماع الذي أسس للإنجازات التي توصلت إليها المقاومة، لا سيما إنجاز التحرير والإنجاز الهائل في تموز 2006 والإنجازات اليوم».

وباتت المقاومة اليوم كما يقول رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق تدافع عن أمرين:

تدافع عن لبنان في وجه المدّ التكفيري الذي لن يحتلّ الأرض فقط إنما سيقوّض الدول والكيان الأمة والكيانات الوطنية على اختلافها.

تدافع عن السلم الأهلي. فما تقوم به المقاومة اليوم على الحدود الشرقية للبنان، وعلى تخوم لبنان، والدور الذي تلعبه داخل سورية، من نتائجه الدفاع عن الأمن والاستقرار اللبنانيين.

قوة لبنان من قوة المقاومة

في قراءة فضل الله، «المقاومة تزيد من قوة لبنان بمعنى أنه لن تكون هناك حلول تجعل لبنان حاضراً على طاولة القرار الإقليمي ولن يكون هناك أي حلول أو أي مشاريع وأي تسويات في المنطقة على حساب لبنان كما حصل في تاريخه من الاستقلال إلى الحرب الأهلية، حيث كان خارج طاولة القرار، ومستبعداً تحت شعار قوة لبنان في ضعفه، من دون استراتيجية ومن دون رؤية إلى دوره في المنطقة، لذلك كانت الحلول والنزاعات على حسابه. أما اليوم فأصبحت قوة لبنان من قوة المقاومة، بالتالي لن تكون هناك حلول على حساب لبنان، ولن تكون هناك نزاعات على حسابه، فقوة المقاومة مسخّرة من أجل الحفاظ على التماسك الداخلي وعلى تجربة التنوّع. وربما هناك دول في المنطقة تستطيع أن تستمرّ كياناتها من دون التنوّع والتعدّد، إنما هذا البلد هو الوحيد الذي نستطيع أن نتأكد مسبقاً أنه لن يبقى موجوداً بصيغته الراهنة إذا قضينا على التنوّع. دفاع المقاومة عن التنوّع داخل المنطقة، هو دفاع عن التنوّع داخل لبنان وحفاظاً على الكيان اللبناني بالمعنى الذي نفهمه، وللوطنية اللبنانية».

كوّنت المقاومة وفق فضل الله «تجارب جديدة، هذه التجارب الجديدة تدلّ على قدرتها على التعاطي مع خصم، ومع عدو جديد غير معروف سابقاً من قبلها، يملك إمكانات تستند إلى شحن فكري، عقائدي، تكفيري، تختلف عن العدو الإسرائيلي. إمكانات هذا العدو التكفيري المادية ودوافعه وحوافزه تختلف عن العدو الإسرائيلي. استطاعت المقاومة أن تتصرّف كجيش نظامي قادر على أن يرسم تكتيكات دقيقة، أن يوظف هذه التكتيكات ضمن استراتيجيات أكثر اتساعاً وهذا مكّنها فعلاً من تحقيق ما حققته من إنجازات».

يعود فضل الله إلى الحرب الأهلية، ويقول: «خرجنا من حرب ضروس، قاتل الجميع فيها الجميع على كلّ الصعد. انتهت هذه الحرب، بقي الاحتلال الإسرائيلي قائماً. في تلك اللحظة كان هناك إجماع تأسيسي على أنّ لبنان ينبغي أن يسعى إلى تحرير كلّ أراضيه بكلّ الوسائل. لقد كانت المقاومة جزءاً من الإجماع التأسيسي، ولذلك لا نستطيع أن نراجع إجماعاتنا لمجرد خلافات سياسية، وأن نعيد النظر بالثوابت السياسية لمجرد تحوّلات داخل البلد وخارجه. هناك سياسات يمكن أن تتغيّر بين حكومة وأخرى، وبين حكم وآخر، وبين انتخابات وأخرى، لكن هناك أموراً لا تتغيّر، فهناك أمور تأسيسية تمّ الاتفاق عليها عند نهاية الحرب الأهلية وكانت جزءاً من الإجماع اللبناني الذي أسّس للعهد السياسي الجديد».

وعليه فإننا لا نستطيع، كما يقول فضل الله، «أن نراجع هذا الإجماع، فالمقاومة هي حق، لا يمكن التنازل عنه، منصوص عليه في الدستور اللبناني، وتدافع عن ركن من أركان الدولة التي لا تستقيم من دون الأرض. وإذا كانت الدولة لا تقوم من دون مؤسسات ومن دون شعب، فهي أيضاً لا تقوم من دون أرض ومن دون قدرة على الدفاع، ولا تقوم من دون سيادة هي عنصر من عناصر قيام الدولة».

ويلفت إلى «أنّ المقاومة تدافع عن ركن من أركان السيادة ومقوّم من مقوّمات الدولة، وهذا غير خاضع للجدل ولا يمكن مراجعته، فقط تمكن مراجعته بعد تحقيق كلّ الأهداف».

يعود فضل الله إلى تاريخ 7 أيار 2008، ويشير إلى «أنّ المقاومة والآخرين استخدموا سلاحهم في الداخل»، لكنه يجدّد التأكيد على «أنّ اعتداء حصل في تلك اللحظة 5 أيار على المقاومة، اعتداء سافر، كانت هناك محاولة لنزع سلاحها بالقوة، من خلال التعرّض لشبكة الاتصالات الخاصة بالمقاومة السلكية، تلك الشبكة التي مكّنت المقاومة من تحقيق إنجازاتها في حرب تموز 2006، وما حصل في ذلك التاريخ أن المقاومة كانت تدافع عن نفسها باسم الشرعية الدستورية والشرعية السياسية، وكانت تدافع عن الإجماع الذي تأسّس بعد نهاية الحرب الأهلية ومن خلال اتفاق الطائف».

على رغم كلّ التشويه وكلّ الحملات، وكلّ الاستهدافات السياسية وكل المؤامرات وكلّ ما تعرّضت له المقاومة بعد عام 2006، كانت هذه المقاومة كما يقول فضل الله تحظى بـ«إجماع وتأييد واسع النطاق يتعدّى الطائفة الشيعية، وتكفي العودة إلى حرب تموز واستطلاعات الرأي التي بيّنت أنّ هناك نسبة عالية من كلّ الطوائف، خصوصاً الطائفة السنية، كانت تؤيد المقاومة ليس فقط في دفاعها عن لبنان بل أيضاً في قيام المقاومة في عملية أسر الجنديين لتحرير ما تبقى من أسرى لدى سجون العدو».

كلّ استطلاعات الرأي وكلّ التحقيقات منذ ذلك التاريخ حتى اليوم، ما زالت تدلّ على أنّ المقاومة تحظى بتأييد واسع يفوق ما يتوقعه كثيرون. يؤكد فضل الله «أنّ التأييد لا ينحصر بطائفة واحدة، ربما صحيح أنّ هناك خلافات داخلية لبنانية على ملفات داخلية وخارجية، على سبيل المثال الموضوعات العربية المختلفة والموضوع السوري، وعلى آليات مواجهة المخاطر المتعدّدة، إنما أيضاً المقاومة صنعت إجماعاً جديداً وهو ضرورة مواجهة الإرهاب، وهذا لم يكن موجوداً قبل ثلاث سنوات، الآن هناك إجماع لبناني على ضرورة مواجهة الإرهاب وعلى تسمية الإرهاب بالإرهاب، وعلى تسمية الاستهداف التكفيري للبنان بالخطر. صحيح أنّ هناك تبايناً في الاستراتيجيات وطريقة وآلية مواجهة هذا الخطر، إنما هناك إجماع تأسّس وتكوّن على ضرورة مواجهة هذا الخطر وعلى تسميته بأنه خطر، على رغم كلّ التباينات، هناك شعور شعبي على الأقلّ عابر للطوائف والمذاهب أنّ ما تقوم به المقاومة على الحدود، ليس دفاعاً عنها فقط إنما دفاع عن لبنان والشعب اللبناني وهذا شديد الأهمية».

ويلفت فضل الله إلى «أنّ هناك إجماعاً ليس فقط داخل حزب الله، إنما إجماع لبناني عميق على رغم التباين في التصريحات على ضرورة التصدّي لهذا الخطر، لا سيما في القلمون».

الخطر الإرهابي ليس بحاجة إلى استجلاب

ووفق فضل الله يكفي «إلقاء نظرة على ما يجري في ليبيا والعراق ومصر والدول الملتهبة الأخرى، ليتأكد لنا أنّ الخطر الإرهابي ليس بحاجة إلى استجلاب». وينصح بقراءة المذكرة الاستراتيجية الصادرة عن تنظيم «القاعدة» باسم مستعار عبد الله بن محمد الذي يدعو فيها «إلى اغتنام فرصة ما يسمّى «الربيع العربي» لملء الفراغات ولإقامة الدولة الإسلامية على كلّ الأراضي التي يمكن الاستيلاء عليها حتى لو كان الاستيلاء على بقعة صغيرة من الأرض، ينبغي المحافظة على هذه البقعة لإقامة دولة ضمن مواصفات الدولة التي يريدونها».

ويتحدّث الكتاب أيضاً عن استراتيجيتين: الأولى: استراتيجية عابرة للحدود الخلافة والثانية: استراتيجية عسكرية يسمّيها استراتيجية الذراعين، أي الاستيلاء على بلاد الشام بسبب أهميتها، والاستيلاء على اليمن لأهميته كطوق للعالم العربي».

يدعو رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق إلى مراقبة أدبيات واستراتيجيات هؤلاء، والتمعّن في عدم اعترافهم بالحدود وتصدّيهم ورفضهم لمعالم الحضارة، ويشير إلى «أنّ أيّ فراغ يخلق في أيّ مكان هم مستعدون لملئه، ونحن لا نريد أن يتحوّل لبنان إلى فراغ من هذه الفراغات».

لا يخفى على أحد الدعم المادي والمعنوي والسياسي الإيراني لحزب الله، فهي الحليف الأبرز والأول له. وهنا يؤكد فضل الله أنّ الجمهورية الإسلامية قدّمت كلّ الدعم اللازم خلال مسيرة الحزب منذ عام 1982 حتى اليوم. يعود فضل الله بالذاكرة إلى «تخلي الجميع عن الجيش السوري ولبنان والفصائل الفلسطينية، باستثناء إيران التي تعاطت بمنطق ثوري في دعم القضية الفلسطينية، ودعم لبنان»، ويشدّد على «أنها قدّمت الدعم اللازم من أجل المقاومة وصعودها واستمراريتها واستمرار الخط البياني الصاعد، وانّ كلّ ذلك تمّ بإرادة المقاومة، فهي قدّمت كلّ أنواع الدعم لكنها استندت إلى هذه الإرادة الموجودة لدى اللبنانيين من أجل صناعة وإنتاج وإيجاد مقاومتهم، واعتمدت على الحافز العميق الذي يملكه الشعب اللبناني بكلّ أطيافه وفئاته السياسية. لقد تمكنت المقاومة، بفعل الدعم الذي قدمته الجمهورية الإسلامية، من الصمود والتطوّر والترقي، وكان لديها حليف في مواجهة عدو يحظى بالدعم الغربي والأميركي وهو خزان من السلاح والخبرة العسكرية الغربية والأميركية تحديداً، وكلّ ذلك استند إلى الإرادة المقاومة التي بنيناها نحن وأوجدتها المقاومة.

يجزم فضل الله «أنّ المقاومة هي نتيجة إرادة اللبنانيين، والتضحيات التي تمّ تقديمها لم تقدّمها المقاومة فقط إنما قدّمها مجتمع المقاومة، وإذا كانت المقاومة لديها ضوابط مع الجمهورية الإسلامية، ولديها تحالفات مع سورية ومع المقاومة الفلسطينية، إنما الإرادة هي متكوّنة داخل مجتمع المقاومة الذي قرّر أن يتحمّل تدمير المساكن في الأعوام 1993 و1996 و2006 والأمهات اللبنانيات هنّ اللواتي قرّرن أن يقدّمن أبناءهن في مسيرة المقاومة ومسيرة الدفاع عن لبنان. مجتمع المقاومة هو الذي رفض فكرة السلام المبسّط الذي تمّ الترويج له طوال عام 1990، وقبل الأثمان المترتبة على المقاومة ورضي أن تكون المقاومة موجودة في المناطق التي يتواجد هو فيها، كلّ ذلك تضحيات قدّمها مجتمع المقاومة، ولولا هذه التضحيات التي وافق مجتمع المقاومة على تقديمها، لما أمكن للمقاومة أن تقوم بما قامت به من إنجازات وما حققته من أهداف».

لقد تطوّر خطاب حزب الله مع الوقت، وأخذ في الاعتبار المتغيّرات السياسية والمتغيّرات في الداخل اللبناني والتحوّلات على الصعيد اللبناني والعربي والدولي. هو تدبّر هذه الدروس وأخذها في الاعتبار، إنما تطوّر الخطاب كان ضمن الاستراتيجيات والثوابت التي لم تتغيّر أبداً، بحسب فضل الله، الذي يشير إلى «أنّ من يقرأ الرسالة المفتوحة عام 1885 إعلان ولادة ووجود حزب الله ومن يقرأ الوثيقة السياسية عام 2009، سيجد أنّ هناك تطوراً في الخطاب لكن مع المحافظة على كلّ الثوابت الأساسية.

ومن الواضح أنّ هناك نوعين من الخطوط الأساسية:

خطوط لها علاقة بالتعامل مع المخاطر الأساسية مثل قضية الاحتلال والعدو «الإسرائيلي» التي لم تتغيّر أبداً، منذ عام 1985 حتى عام 2009.

خطوط تغيّرت بناء على تغيير الآخرين لرؤيتهم وضمن شروط معينة مثل العلاقة مع الدول الأوروبية. ونلاحظ داخل الوثيقة السياسية عام 2009 خطاباً محدداً ومختلفاً نسبياً اتجاه أوروبا، هذا له علاقة بالتحوّلات في السياسة الأوروبية والتحوّلات في الدور الأوروبي، وأيضاً يتضمّن تقويماً محدّداً لهذا الدور ودعوة إلى تحويل هذه السياسات لتصبح متوافقة وملتزمة بقضايا المنطقة. هناك عداء لا يتغيّر للعدو «الإسرائيلي» ولكل القوى الفتنوية التي تريد تقسيم وتفتيت هذه المنطقة ، بينما هناك خصومات مشروطة بسياسات الآخرين، فهناك خصومات تصعد وتنخفض بناء على سياسات الآخرين. كلما اقترب الغرب مثلاً من «إسرائيل» والتصق بها، وكلما كانت سياسات الغرب تقسيمية تجاه المنطقة، كان خطاب حزب الله خطاب رفض وخصومة ومعارضة، وكلما كانت الدول الأخرى الغربية أقلّ دعماً للعدو «الاسرائيلي» وأقلّ مساندة لخططه التقسيمية والتفتيتية للمنطقة كان من الممكن نسج خيوط الحوار والأخذ والردّ، بين المقاومة والقوى التي تعبّر عن المنطقة وبين القوى الغربية.

توازن ردع مع العدو

المقاومة هي قوة عظمى بالإنجازات التي حققتها. فمفهوم القوة العظمى كما يقول فضل الله، هو «مفهوم يتضمّن الهيمنة والرغبة بالاستحواذ، يقوم على فكرة المصالح وعلى فكرة السيطرة، في حين أنّ المقاومة هي عظيمة لأنها استطاعت أن تراكم الإنجازات والمكاسب وأن تراكم القوة في تحقيق أهدافها لأنها عبّرت جيداً عن تحقيق طموحات اللبنانيين وأبناء هذه المنطقة، فهي عظيمة لأنها أنجزت ما ينبغي إنجازه، وأقامت توازن ردع مع العدو، ودفعت العدو مرغماً على الانسحاب من الأراضي اللبنانية ومنعته أيضاً، وأذلته عام 2006 ومنعته من تكرار عدوانه وسيطرته على لبنان».

يؤكد فضل الله «أنّ المقاومة عظيمة كلما كان لبنان عظيماً مقتدراً ومستقراً قادراً على الحفاظ على الحدّ الأدنى من الاستقرار ووحدته ضمن عواصف المنطقة، فهي عظيمة لأنها تمكنت من منع النيران إلى الداخل اللبناني».

حزب الله هو قوة لبنانية أولاً وأخيراً، هكذا يقول رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، فضمن دوره اللبناني، تمكن حزب الله، «من زيادة قوة لبنان وزيادة وزنه داخل المنطقة وقدرته على مواجهة المخاطر. المقاومة كقوة لبنانية مكنت لبنان من أن يصبح أكثر حضوراً داخل الإقليم، أكثر قدرة على مواجهة المخاطر، وأكثر قدرة على التصدي للتحولات ونتائج التحولات. وبهذا المعنى لبنان هو الذي يتحول إلى دولة حاضرة داخل الإقليم يدافع عن مصالحه، وأيضاً من خلال المقاومة يدافع عن مصالح المنطقة وأبناء المنطقة».

يسخر فضل الله من الحديث عن أنّ المقاومة استنزفت في سورية، ويشير إلى «إنجازات المقاومة وقدراتها على تحقيق المكاسب ودرء المخاطر ومنع المدّ التكفيري من الوصول إلى لبنان، والدور الذي تؤدّيه». ويشدّد على «أنّ المقاومة تحتفظ بقدراتها كاملة، بل هي تنمّي هذه القدرات وتزيد من فعاليتها ليس فقط على جبهة مواجهة الخطر التكفيري، إنما على كل الجبهات، لا سيما جبهة مقاومة العدو الإسرائيلي والتصدي له. فالمقاومة احتفظت بقدراتها، وتحافظ على قدراتها اليوم وتراكمها». ويقول: «يكفي أن نراقب التصريحات الصادرة عن محللين عسكريين صهاينة والجهات العسكرية الإسرائيلية لنرى مقدار المخاوف التي تتربص بالعدو، وإلى تقدير العدو لقوة المقاومة وإلى إنجازاتها وفعاليتها. العدو يعبّر عن القلق ليل نهار من تنامي قدرات المقاومة وقدرتها على التصدي على جبهتين والمواجهة على جبهتين».

في الختام يدعو فضل الله إلى «التفكير ولو قليلاً لو أنّ أزمات عام 2005 وما بعدها من أزمة التكفيريين وتشظي المنطقة واستهداف سورية في دورها الممانع والتصدي للعدو، قد حدثت ونحن لم نحسم المعركة مع العدو عام 2006، لكان الخطر مضاعفاً على لبنان». ويشدّد على «أنّ الإرادة السياسية والوطنية هي التي تصنع المقاومة، والرحلة إلى تجربة المقاومة رحلة معبّدة بالجهد والدم والحديد والنار والمقاومة السياسية».

مفاجأة حزب الله لـ«إسرائيل» في مجال الدفاع الجوي

اعتمدت المقاومة عام 2000 في شكل أساسي على عنصرين:

العنصر الحركي: المقاومون الذين يتحرّكون في الميدان للوصول إلى الهدف.

عنصر النار: النار التي تلقى على الهدف من أجل شلّه أو تحييده.

في عام 1982 بدأت المقاومة بهذين العنصرين في شكل محدود، ففي عنصر الحركة كان شباب المقاومة يملكون خبرات محدودة جداً وفي العنصر الناري كان سلاحهم البندقية والـ«أر بي جي»، لكن التطور اللاحق كان في شكل تراكمي.

استطاع حزب الله في عنصر الحركة أن يتقدّم في صناعة المقاتل المتعدّد الكفاءات في مرحلة أولى، ثم في مرحلة ثانية صناعة التخصّص العميق، فإحداث التشكيلات المتخصصة الهندسة والاتصالات في مرحلة ثالثة، وفي مرحلة رابعة التمرّس على الأسلحة المنسقة.

أقصى ما وصل إليه حزب الله في معركة القلمون، كان في المجال الحركي، وهو عمل الوحدات المتخصصة في حرب الجبال المنسّقة مع جيش نظامي الجيش السوري ، وقد تكون هذه المرحلة مميّزة حتى في التاريخ العسكري.

وعلى صعيد الكفاءة العسكرية للمقاتلين، فإنّ حزب الله وصل في إعداد تشكيلات النخبة بما يضاهي وحدات النخبة لدى الجيوش المتقدمة، التقليدية وغير التقليدية في الشرق الأوسط، ويوازي وحدات النخبة في البلدان الكبرى».

أما على الصعيد الناري تطورت قدرات حزب الله في شكل تراكمي وتوسعي. والخطوة الأولى كانت امتلاك صواريخ أرض أرض، كاتيوشا ذات المدى القصير ثم المتوسطة، ثم تطوّر ذلك بالموازاة الى امتلاك الصواريخ المضادة للدروع صاروخ كورنيت الذي يعتبر في عالم الصواريخ المضادة من الفئة الأولى من حيث الفعالية والدقة في الإصابة، وهو الذي فاجأ العدو الإسرائيلي بتدمير «الميركافا 4» حيث انهارت أحلامه التي بناها خلال السنوات الأربع السابقة لحرب تموز 2006، إلى امتلاك صواريخ أرض أرض متوسطة المدى منفتحة إلى المدى البعيد تصل إلى 100 كلم رعد 1، رعد 2، رعد 3 وصولاً إلى امتلاك الصواريخ البعيدة المدى التي تصل إلى 250- 300 كلم فجر والتي حقق فيها معادلة توازن الردع مع «اسرائيل».

الأهمّ في القدرات النارية لحزب الله في المجال البري هو أمران: الدقة في الإجابة مع السرعة والقدرة على التخفي وتجنب نار العدو. وهنا تدخل نظرية الملاجئ والأنفاق التي ابتدعها حزب الله وأصبحت سمة لحرب الجيل الرابع اليوم.

إضافة الى ذلك، امتلك حزب الله منظومة صواريخ بر بحر التي كانت في طليعة استعمالها في عام 2006 بتدمير بارجة «ساعر» في عرض البحر.

أما بالنسبة للجو فإنّ ما كشفه حزب الله أو ما أعلنه عن قدراته في الدفاع الجوي حتى الآن أمرين:

الصواريخ المنخفضة المدى التي أسقط بها حزب الله في الأيام الثلاثة الأخيرة من حرب تموز طائرة هليكوبتر «إسرائيلية»، وتتقدم تلك الصواريخ على الصاروخ الغربي ستنغر .

طائرة أيوب من دون طيار التي اختبرها حزب الله، حيث حلقت 85 دقيقة فوق فلسطين المحتلة وجمعت كلّ ما يريده حزب الله من معلومات حول المنطقة المستهدفة.

ويسأل المراقبون المتابعون هل يخبّئ حزب الله مفاجأة لـ«إسرائيل» في الجو على صعيد الدفاع الجوي؟ هذا التساؤل لا يجيب عنه أحد من حزب الله نظراً إلى التكتم الذي يحيط به حزب الله عن سلاحه الجديد.