تتكثّف الأسئلة وتتراكم حول أسباب سقوط تدمر مع ورود معلومات أفادت بأنّ الدولة السوريّة سحبت الآثار المنقولة قبل شهرين من سقوطها. وإلى أن توضح الدولة السوريّة صحّة تلك المعلومات ودقّتها، لفت الانتباه بأنّ المقاتلات السوريّة لم ترصد الهجوم من الجوّ قبل بلوغه المدينة، أو تقصف المهاجمين في حركة ردع قاسية تحصّن بها المدينة وتمنع الداعشيين من الهجوم، سيّما وأنّ تدمر مكشوفة بوضوح من الجوّ. مراقب عسكريّ لفت الانتباه إلى أنّ الجيش السوريّ قد أنهك واستنزف على مدى المساحة السوريّة، وقد تمّت مباغتة تدمر من زاوية الإنهاك الذي حلّ بالجيش السوريّ، وتبقى الأسئلة المطروحة مشروعة في ظلّ الخطر الوجوديّ، واليقين وبحسب شخصيّة متابعة، وارتكازًا على خطاب الأمين العام لـ"حزب الله" السيّد حسن نصرالله في النبطيّة، بأنّ المقاومة موجودة في كلّ مكان، بأن تدمر ستستعاد. وهي ليست جرحًا سوريًّا فحسب، بل في هالتها الحضاريّة والتاريخيّة والكونيّة، هي جرح وجوديّ بكلّ ما للكلمة من معنى. وهذا ما أكّد عليه بيان الأزهر "إنّ الدفاع عن المناطق الأثريّة من النهب والسلب والدمار هي معركة الإنسانيّة بأكملها. حيث يجب أن تتكاتف الجهود من أجل حماية المدينة التي تعدّ أحد أهمّ وأقدم المواقع الأثريّة في الشرق الأوسط من المصير المظلم الذي ينتظرنا على يد داعش". بيان الأزهر، يؤخذ بشموليّته وليس بجزئيّته، وهو مؤشّر متقدّم في المدى الإسلاميّ السنيّ يجب ان يقرأ من بعض سياسيي لبنان، كما قال مصدر مسؤول.

سياق الأحداث، والتي تمثّل تدمر والرمادي جزءًا استراتيجيًّا منه، يدلّ على خطورتها الوجوديّة الضاغطة. السياق بجوهره لم يعد مضبوطًا بل هو متراكم ومتفلّت ومكشوف على عناوين تمسّ بخصوصيّة المنطقة المذهبيّة وتوازنها وفرادتها التي نشأت عليها ولو اختلفت معايير النشأة في إطارها الانتظاميّ أو النظاميّ بين هذا البلد وذاك. غير أن اجتياح تنظيم "داعش" أظهر أنّها لا تتحرّك لوحدها، فالتنظيم وكما قال السيّد نصرالله يتحرّك بوحشيّة قاتلة ومدمّرة للخصوصيّات كلّها، إسلاميّة ومسيحيّة، بلا تمييز بين مذهب وآخر. ثمّة فكر استراتيجيّ خلفها، يجرّها باتجاه الاجتياح المتفلّت بشكلانيّته ومضمونه، والمتوحّش بانغراسه في تربة لا تستطيع امتصاصه وهضمه، بل ستلفظه بسبب عبثيّة توجّهاته، وهو عامد على الإبادة الكليّة، بعنوان "فقهيّ" ابتدعه لنفسه، ألا وهو سلخ الإسلام من معناه وتراثه وسياقه الكليّ كما كتب مرّة المفكّر الراحل محمّد أركون. فهو وبالتخطيط الأميركيّ والدوليّ، ملتزم بخطوط عريضة له أن يجسّدها في الإقليم الملتهب من سوريا إلى اليمن مرورًا بالعراق. ما يجدر فهمه في حقيقة الأمور، أنّ كثافة المعارك بعناصرها الهجوميّة والدفاعيّة في ظلّ مشهد واحد، في عمق هذا المثلّث الملتهب، تكشف بعض النتائج إذا رام المراقبون استشرافها واستقراءها، يعبّر عنها بصورة جليّة في محاولات ربط مناطق ببعضها أو دمجها، أو فصل مناطق عن أخرى. أمّا المسألة الخطيرة الواضحة فتترجم بإلغاء الحدود التي تمتّ وتتمّ على وجه التحديد على الحدود السوريّة-التركيّة، والسوريّة-العراقيّة، وكادت أن تنجح على الحدود اللبنانيّة السوريّة وفق منهجيّة واضحة لولا مواجهة "حزب الله" للقوى التكفيريّة في جرود القلمون، كما مواجهة الجيش لها في عرسال وطرابلس وعكار. ويعتقد المراقبون وفي السياق عينه بأنّ التكفيريين سيتجهون بعد تدمر نحو الحدود السوريّة-الأردنيّة-العراقيّة وهي على ما يبدو حدود مشتركة وجامعة، وهذا ما يرعب المجتمع الأردنيّ، وقد حفّزه ذلك وبحسب المعلومات الأخيرة إلى الاستنفار بنتيجة لمخاوفه من تمدّد تلك العناصر إلى البادية الأردنيّة من خلال تلك الحدود المثلّثة الأضلاع بين سوريا والأردن والعراق.

يدخل في الإطار هذا، كلام تلفزيونيّ واضح للسيد حسن نصرالله قال فيه بأنّ النكبة الحاليّة أشدّ خطورة من نكبة 1948 أي نكبة فلسطين، هي نكبة وجودية وكونيّة بامتياز تصاغ بقوالب استراتيجيّة تنفّذها المنظمات التكفيريّة. لقد تمّ الإيضاح غير مرّة بأنّ القوالب الاستراتيجيّة قد تحدّدت على وجه التحديد، من خلال إرادة اللاعبين بجعل المنطقة ولزمان طويل، مدى لاحتراب، تستلذّ به إسرائيل، فتنهك به القوى المتصارعة، حتى إذا ما حضر أوان التسوية تجلس على الطاولة منهوكة القوى لا تملك القدرة على التفاوض، فتملى عليها الخطوط الجديدة بلا وسيط بعد ترميد الأرض برمّتها.

من هنا جاء خطاب السيد نصرالله الذي ذهب في المضمون إلى ما هو أبعد من معركة ​جرود عرسال​، أي إلى استعادة المناطق التي تمّ احتلالها من "داعش" و"النصرة"، وجعل من الجرود مفتاحًا لعملية الاستعادة التي لن تتوقّف على الحدود بل ستتوغّل في الداخل السوريّ كما قال إلى جانب الجيش السوريّ في قتاله.

والمعارك وبالتوظيف الخارجيّ، ارتكزت على فكفكة الجبهات بفكفكة المعنى وارتباطه بالسياق الجغرافيّ والمذهبيّ والطائفيّ. وقد لفت نصرالله إلى ذلك حينما تكلّم على الخطّة الإسرائيليّة الآيلة إلى تجزئة الجبهات، وتلك خطّة تمّ اعتمادها منذ نكبة فلسطين والحروب التي تلتها. فدعا إلى توحيد الجبهات بتوحيد المعنى القتاليّ أي العقيدة القتاليّة بوجه مجموعة عبثيّة تبدو كدمل سرطانيّة ضاغطة وقاتلة. ووفقًا للتجارب التاريخيّة، اعتبر مرجع سياسيّ، بأنّ جوهر الانتصار واستعادة الأرض بمكوّناتها، أولى شروطه أن تتوحّد الجبهات في معنى سياسيّ وعقيديّ واحد. فالقتال في سوريا والعراق واليمن معناه واحد وهدفه واحد. وفي الوقت نفسه، لن يقف السيد عند التفاصيل اللبنانيّة بحروفيّتها التقليديّة، فقد أظهر خطورة "داعش" على معظم المكونات اللبنانيّة والعربيّة، واعتبر بدوره بأنّ "تيار المستقبل" لن يقدّم ضمانات للمسيحيين ولا لسواهم لأنّه سيكون أولى ضحايا "داعش". ويؤكّد بهذا الخطاب الاستراتيجيّ الواسع والكبير، بأنّ الحرب على التكفيريين واجب وطنيّ وأخلاقي وروحيّ.

في بعض المعطيات الواردة على ضوء خطابه، بأنّ مسيحيي البقاع الشمالي سيقفون صفًّا واحدًا إلى جانب أهل بريتال وبعلبك والقرى الأخرى. هذا قرار اتخذ على مستوى أهالي المنطقة، وستتجلّى تلك الوقفة بعيدًا عن الاصطفافات الحزبيّة بإحساسهم العميق بخطورة وجود "داعش" و"النصرة" فوق جرود عرسال. لكن ما يجب أن يلحظه المراقبون بأنّ جرود عرسال ستكون المفتاح والمدخل من جديد بعد جرود القلمون للالتفاف الدائريّ على المخطّط الداعشيّ الكبير والخطير بحجمه، والذي يحاول أربابه ربط البحر بالنهر، البحر المتوسط بنهر العاصي ودجلة والفرات، وإزالة الحدود. ويعود بعض المراقبين إلى معنى سقوط تدمر ليشيروا بأنّه يدخل في وسط السياق الاستراتيجيّ الواضح، في محاولة اقترابه من حمص وربط تلك المدينة بالحسكة وجسر الشغور والقامشلي...

إنها بالفعل معركة وجوديّة كبرى ستحدّد مصير المنطقة برمّتها. "إنّنا أمام خطر لا مثيل له في التاريخ، فماذا فعلت داعش في العراق وسوريا مع كلّ الناس حتى داخل أبناء المنهج الواحد، بدل أن يتوحّدوا تقاتلوا وذبحوا بعضهم البعض..." وللأديان أن تحسم النقاش في حرب مفتوحة على عناوين شتى... والمعركة ليست بوجه "داعش" بل بوجه كل الدول التي تستثمر "داعش" للانقلاب على حقيقة وجودنا بجيوسياسيّات عبثيّة قاتلة.