أظهرت المستجدات العراقية والسورية ان الأميركيين وحلفاءهم العرب يراهنون على حصول إستنزاف طويل الامد بين المحور الذي تقوده ايران وبين تنظيم "داعش" في قتال مفتوح يُنهك الفريقين. فإذا صحّت التسريبات عن موافقة واشنطن على دخول مقاتلين إيرانيين الى العراق لمواجهة الدواعش في الرمادي ومنع وصولهم الى الحبانية أو سامراء، فإن الخطة الاميركية الهادفة لتوريط الطرفين بحرب ضروس بدأت تتحقق من دون أن يكون للاميركيين اي تورط ميداني. وزير الدفاع الاميركي اشتون كارتر قال كلاما واضحا بأن مسؤولية صد "داعش" في العراق تقع على عاتق العراقيين. لا دخل للأميركيين بالقتال، والمساعدة تقتصر على التجهيز والتدريب والتسليح، رغم ان تدخل ايران يتيح لطهران زيادة نفوذها اذا ما استطاعت كسب المعارك على حساب اي دور محتمل تطمح اليه السعودية.

لم تعد الحسابات مختلفة بين العراق وسوريا. تمّ ربط الساحات. معلومات ذكرت في اليومين الماضيين أن الأميركيين وحلفاءهم كانوا ينتظرون حصول المواجهة الكبرى بين ​الجيش السوري​ و "داعش" في تدمر. كان الرهان على حصول حرب مفتوحة يستحضر لها الجيش السوري وحليفه "حزب الله" قوات من جبهات أخرى لخوض معركة شرسة، نتيجة قراءة تفيد ان دمشق "لم تعد تتحمل معنوياً وميدانياً الانسحاب بعد الذي جرى في ادلب وجسر الشغور وضواحيها". يتحدث مطلعون يُصنفون انفسهم في "محور المقاومة" عن فخ كان يُنصب في تدمر لإستنزاف السوريين في البادية، ما يؤدي الى إستغلال تلك المواجهة من قبل "​جيش الفتح​" للتقدم في أكثر من جبهة في أرياف دمشق وحمص وحماه واللاذقية. قيل ان دمشق درست المعطيات واتخذت قرار الانسحاب من تدمر لعدم نقل اي وحدات عسكرية من جبهات أساسية وزجّها في تدمر، فيما أولوية المقاومة تنحصر الآن بحسم معركة جرود القلمون لاعتبارات عدة انطلاقا من اهمية موقع القلمون الجغرافي على الحدود مع لبنان، ولأن تلك الجرود تشكل امتداداً طبيعياً لسلسلة المرتفعات التي تصل الى الحدود الجنوبية، ومنعاً لقطع طريق الشام-بيروت الدولي عند جديدة يابوس او قرب الزبداني، والأهم إستهداف مشروع قائد "جيش الاسلام" زهران علوش الذي يقضي بالانقضاض على طريق حمص-دمشق والوصول الى العاصمة ضمن فكي كماشة من اتجاهي القلمون والغوطة.

تمركزُ تنظيم "داعش" هناك قد يأتي لتسهيل إنسحاب مسلحيه من جرود القلمون، علماً ان تمدده جاء على شكل القوس من الانبار العراقية الى تدمرالسورية مروراً بدير الزور. بتقدمه أقفل "داعش" طريقاً حيوياً كان يعتمد عليه علوش لإمداد مسلحيه من خلف تدمر نحو الضمير التي تبعد 50 كلم تقريباً عنه. أثار دخول التنظيم الإرهابي الى المدينة الأثرية سخط عواصم العالم، فبدا القلق والاستنكار قبل وبعد ارتكاب مجزرة بحق مدنيين، خصوصاً ان "المرصد السوري" المعارض تحدث عن سيطرة "داعش" على 50 بالمئة من الاراضي السورية، فانطلقت الأسئلة: أين "جيش الفتح"؟ اين المسلحون المعتدلون؟ لماذا لا يواجهون تمدد "داعش"؟ هل الاعتماد على الجيش السوري لقتال تنظيم "الدولة الاسلامية" فقط؟ أين طائرات "التحالف"؟ كيف سمحت بسير قوافل "داعش" في الصحراء مسافات طويلة ولم تستهدفها؟ تماماً كما هي الأسئلة حول ما حصل في الرمادي.

من خلال التطورات العراقية ظهر رهان الأميركيين على دور مرتقب للحشد الشعبي في تركيبة جديدة بمشاركة عشائر السُنة إضافة الى الجيش العراقي وقوات إيرانية يريد لها الأميركيون جميعها ان تنغمس بالحرب ضد "داعش". تستفيد واشنطن من دخول طهران بثقلها الى المعركة. اساساً لا مصلحة اميركية من تمدد "داعش" سوى اشغال الايرانيين بعدو خطير يُلهي طهران عن اسرائيل أو مقارعاتها للسياسة الغربية ويحدّ من نفوذها التوسعي.

لكن في سوريا الوضع يتشابك، ولا بدّ للتخلص من "داعش" من الاعتماد على قوة قادرة. حتى الآن لا يعترف الغرب وعواصم خليجية بأي دور للجيش السوري، لكنهم في المقابل يرغبون بإنهاكه في حربه ضد التنظيم. تدرك دمشق وحلفاؤها نية تلك العواصم. من هنا جاء انكفاؤها عن مقارعة الدواعش، بإستثناء ما يجري في ريف الحسكة- حيث سهول القمح ومساحات الزراعة. اللافت هنا أيضاً تحقيق الجيش السوري انجازات ميدانية كما بدا مؤخراً في السيطرة على مفرق الشدادة.

تعرف دمشق جيداً أن الخطر على النظام يكمن في تمدد "جبهة النصرة" والفصائل التي يقودها علوش او ما بات يُعرف بجيش "الفتح". صحيح ان مخاطر "داعش" كبيرة ووجودية وتُترجم بإستيلاد دولة يُنتجها التقسيم، لكن هناك قلقاً دولياً من التنظيم في ظل وجود شرعية دائمة لمحاربته "داعش" عاجلا أو آجلاً. بينما أي نجاح للمسلحين الآخرين أو أي فرض نفوذ وسيطرة لهم يشكل مطلباً غربياً-عربياً للإطاحة بالنظام.

فهل اتبعت دمشق الآن من خلال الانسحاب من تدمر سياسة رمي الرصاص على رجليها بدل الرمي على رأسها؟ يبدو ان أولوية معركة دمشق هي مع "جبهة النصرة" ومجموعات باتت حليفة لها، لا "داعش". التنظيم الإرهابي والجيش السوري يؤجلان المواجهة بينهما لوقت لاحق بعد انتهاء كل طرف بحسب مصالحه من "جبهة النصرة" وآخرين منضوين في تشكيلاتها.

يشير المتابعون الى موعد نهاية حزيران كحد فاصل بين الأميركيين والإيرانيين سيلقى صدى إقليميا واسعا. فهل يفتح التوافق النووي عصر التفاوض على قاعدة: كلنا ضد داعش. السؤال يستند الى قلق أميركي حقيقي ورعب إقليمي من تمدد التنظيم. صارت قوة "داعش" اكبر من قدرة طرف واحد على الحسم ضده. التحالف الواسع لمحاربته فعلاً دونه شروط ومطالب، تبدأ مما تريده السعودية في العراق وسوريا ولا تنتهي بما تريده ايران في اليمن.

من هنا حتى اخر حزيران سيحاول "داعش" التمدد اكثر شرقا وشمالا في سوريا. قد يبدو مجددا مطار دير الزور هدفاً لداعش لجعل المنطقة الشرقية خالية من تواجد الجيش السوري. اما الشمال فمعركة "داعش" مع باقي مجموعات المسلحين آتية لا محالة. هذا قد يجعل "جيش الفتح" يكافح للوصول الى سهل الغاب وحماه في محاولات تمددية بناء على تمنّ تركي. يبدو الامر صعباً، لكن لا خيار ميداني امام المسلحين الا تلك المساحة. فماذا عن "داعش"؟

اذا بقيت الامور على هذا المنوال لا مكان ولا وجود لكل المجموعات المسلحة بإستثناء "داعش". فالتنظيم سيطيح بكل الفصائل المسلحة اذا أراد. عندها سيتحدد الصراع او التفاوض على خطين: "محور المقاومة" مقابل "داعش".