كيف سنعيد قراءة ما حققته المقاومة الوطنية ـ الإسلامية في طرد الاحتلال «الإسرائيلي» من جنوب لبنان، بعد خمس عشرة سنة على يوم التحرير؟

من العقلانية بشيء المباشرة بنقاش هادئ وموضوعي حول أسباب نجاح هذه المقاومة لسبب علمي وفكري أقلّه، أو لسبب عملي يرتبط بقابليّة تصدير هذه التجربة إلى العالم كنموذج للمقاومة العاقلة التي يمكن ضمها إلى نماذج شهيرة ناجحة مثل حروب التحرير في أميركا اللاتينية والفيتنامية والجزائرية مثلاً.

من الطبيعي القول إن المقاومة اللبنانية بكل فصائلها تميّزت عموماً بالسرية التي أمّنت لها الفاعلية والصدقيّة والجدية في بياناتها، والرضى الشعبي والتكامل والتناغم بين المقاومين والبيئة الحاضنة، وبمعرفة نقطة ضعف العدو. وهي لذلك نجحت في التحوّل من ظاهرة راسخة الى فعل يومي ثابت ومتعدد، واعترف بها العدو تفاهم نيسان قبل الصديق، فكان لا بدّ لها من أن تحقق هدفها التحريري الأوّل.

إنّ الشرعية والملاذ والدعم الشعبي وكذلك البطولة المؤمنة المؤيدة بصحة العقيدة هي عوامل ملائمة ضرورية لنجاح كل حرب تحرير وطنية. ومنذ انطلاقة المقاومة منذ عام 1982 بقيادة الحزب السوري القومي الاجتماعي والحزب الشيوعي، إلى انتصارها عام 2000 على يد حزب الله وبمشاركة الحزبين العلمانيين المذكورين، وُجِدَت المقاومة اللبنانية في ظروف تتوافر فيها عناصر عديدة.

واكتسبت حرب المقاومة مشروعيتها باعتبارها حرباً دفاعية ضد احتلال «إسرائيلي» غاشم، بدأت في فلسطين والجولان وسيناء، وانتهت في لبنان. والدفاع هنا عن النفس ضد اعتداء أو احتلال خارجي هو حق من الحقوق البديهية الأولية. ومن النافل التذكير بميثاق الأمم المتحدة، خصوصاً المادة 251، أو بالاتفاقات الدولية العديدة والمواثيق والقانون الدولي لتأكيد الحق بالمقاومة والتحرير. وبينما لم تكن الدولة اللبنانية تملك الوسائل من جيش نظامي قوي وأسلحة متطورة لمواجهة احتلال «إسرائيل»، فقد تولّت المقاومة هذه المهمة.

ولعل ما عبّر عنه جنرال الاحتلال «إيلي غيفا» في ذلك الوقت شكل أكبر تعبير عن شرعية المقاومة اللبنانية بالقول لمراسل صحيفة «هآرتس» في جنوب لبنان: «عندما نعطي الأوامر لجنودنا بإطلاق النار ضد هؤلاء الذين يدافعون عن أرضهم فكأننا نعطيهم الأمر بألاّ يدافعوا عن أرضهم». وهذه أيضاً وجهة نظر المراسل العسكري «الإسرائيلي» المعروف «زئيف شيف» الذي تساءل في سلسلة مقالات: «ما إذا كان الجيش يواجه إرهاباً أم دفاعاً مشروعاً عن النفس»؟ ملاحظاً في الوقت نفسه «ان خطاب معظم المراقبين «الإسرائيليين» قد تغيّر، فهم لم يعودوا يتكلّمون عن «اعتداءات» أو «إرهاب» ولكن عن عمليات مقاومة وحرب عصابات».

واعتراف العدو يحمل دلالات مهمّة ويبيّن، على الأقل، نجاح المقاومة في اختراق النسيج المجتمعي والسياسي للكيان الاغتصابي. وهذا الأمر ليس جديداً في حروب العصابات. فحرب فيتنام خسرها الأميركيون في الولايات المتحدة نفسها. لم تتوقف الحركة المؤيدة للسلام، غداة الصدمة النفسيّة التي أحدثها هجوم «تيت»Tet عام 1968، عن التظاهر والمعارضة، وهو العمل الذي كانت له آثار واضحة. لقد بدت الحرب غير عادلة أخلاقياً ومعنوياً ولم تعد الأهداف التي تعلنها الحكومة مقنعة للرأي العام.

في لبنان لم تعد حكومة العدو قادرة على تبرير وجود جنودها في «الحزام الأمني» حيث يتعرضون للموت في كل لحظة من دون أن يستطيعوا حماية الجليل الذي سقط فيه أكثر من أربعة آلاف صاروخ كاتيوشا بين عامي 1982 و2000.

والجدير ذكره، أن المقاومة لم تعمل إلاّ على الأراضي اللبنانية المحتلة حصراً، ولم تصوّب إلاّ على الأهداف العسكرية إلاّ عندما كانت تضطر لضرب المستوطنات اليهودية ردّاً على المذابح «الإسرائيلية» بحق المدنيين في جنوب لبنان فاكتسبت بذلك أكثر فأكثر صفة المقاومة الشرعية، ولم يعد ممكناً وصفها بالإرهابية في أي حال من الأحوال.

ولا يكفي العنصر العددي من أجل إنجاح هذه المقاومة، بل يجب توافر القدرة على استغلال الأرض والجغرافيا. فحرب العصابات تتطلّب قدرة على الإخفاء والاختباء وعلى الاتصال والتوزّع، وبفضل طبيعة الأرض أستطاعت المقاومة تلقّي الأسلحة وإلهاء جيش الاحتلال في مهمات عسيرة وخلق «ملاذات» وحتى «أرض محررة» وعلى الأقل القدرة على نشر عناصرها المقاتلة وتخبئتها. ومن النادر جداً نجاح حرب عصابات من دون تلقّي دعم خارجي، وفي معظم الأوقات ايجاد «ملاذات». الملاذ هو من دون أدنى شك، العامل الأساسي في المساعدة الخارجية. فمن دون الملاذ السوري ودعمه هل كانت المقاومة اللبنانية قادرة على الحياة مثلاً؟ وها هو الجنرال جياب ومعظم استراتيجيي «حرب العصابات» يتفقون على اعتبار الملاذ المجاور ضرورياً بل لا بدّ منه لنجاح الأخيرة.

وهنا لا نتغاضى عن الطبيعة الجغرافية للبنان من أحراج وجبال ووديان وعرة تصعّب المهمة على جيش نظامي أجنبي ، الأمر الذي ساعد في حيّز واسع مهمة المقاومة، ولكن ضيق المساحة اللبنانية الممكنة جعل إمكان تطوير المقاومة المسلحة إلى حرب تحرير شعبية بقي أمراً متعذراً، لكن العامل الجغرافي يبقى نسبياً.

واحتاجت المقاومة لنجاحها للسكان سواء كانوا ريفيين أو مدينيين، فإنضواء السكان في دعم الكفاح من أجل التحرر الوطني شكل همّاً أساسياً تحركه المقاومة، وقد حصل ذلك ليس بفضل قدرة المقاومين على الاقناع فقط، ولكن كتتويج أيضاً لمسار وعي وطني حصل بعد الاحتلال، وإلى صمود السكان وتأييدهم للمقاومة، لأن هؤلاء المقاتلين الذين يعملون وسط الشعب كانوا مثل «السمك في الماء» الذي لا يستطيع العيش من دونه.

وهكذا شكل إنضمام قوى شعبية تحت راية المقاومة عاملاً من عوامل نجاحها لأن الهدف السياسي لحرب العصابات الثورية هو السكان أنفسهم.

ومن عوامل نجاح المقاومة، انها وجدت في الوسط المديني أرضاً ملائمة لنشاطها، كما حدث في الجزائر وفي بلدان عديدة من أميركا اللاتينية، لأن المقاومة السرية في الأوساط الحضرية يكون اكتشافها أكثر صعوبة منه في الأوساط الريفية. وهكذا مثلاً في صيدا وصور والنبطية، وقبلاً في بيروت عام 1982، استطاع أبطال المقاومة الوطنية اللبنانية أن ينفذوا أكثر عملياتهم فاعلية من دون سقوط خسائر تذكر في صفوفهم. إنها عمليات فاعلة أقله على الصعيد النفسي والمعنوي، إذا استثنينا فاعليتها العسكرية. وما حدث في العاصمة بيروت من خلال عمليتي «الويمبي» التي نفذها شهيد الحزب القومي السوري الإجتماعي خالد علوان في أيلول 1982، و«محطة أيوب» التي نفذها الحزب الشيوعي اللبناني، دليل ساطع على ذلك، إذ لم تستطع قوات الاحتلال المكوث في المدينة أكثر من أسبوعين وخرجت بعدها مندحرة ومذلولة وهي تنادي عبر مكبرات الصوت: «لا تطلقوا النار علينا نحن منسحبون». وربما يفسّر هذا الأمر بقاء قوات الاحتلال طوال هذه المدة 1978 – 2000 في ما يسمى «الحزام الأمني» المؤلّف من قرى صغيرة ومناطق نائية جنوب لبنان يتعاون بعض سكانها مع المحتل أو يضطرون إلى اللجوء إلى خدماته على الأقل.

إن امتلاك العدو أحدث الأسلحة المتطورة، من نووية وغيرها، لا يكفي لردع المقاومة، أو لمنع سورية وإيران من أن يقدمان كل الدعم الممكن لها، وهو أمر أساسي لاستمرارها ونجاحها ولا يزال قائماً حتى الآن.