في ظل المواقف المتعددة على الساحة اللبنانية، بات من الواضح أن هناك إستراتيجيتين مختلفتين في التعامل مع التحديات الأمنية الداهمة، التي لم تعد تحتمل التردد في التعامل معها، خصوصاً أن موجة التطرف والإرهاب باتت تجتاح المنطقة على نطاق واسع، وبالتالي من الأفضل الذهاب نحو تحديد الأولويات.

من حيث المبدأ، كل الملفات السياسية مؤجلة في هذه المرحلة، والأولوية أمنية بالدرجة الأولى، والساحة اللبنانية لا تنفصل عن واقع ساحات الشرق الأوسط المختلفة، حيث الإنقسام بين مكونات المجتمع في التعامل مع الأخطار المحدقة، لكن هل يمكن الإستمرار على المنوال ذاته؟

إنطلاقاً من نظرية "الإعتراف بالخطر فضيلة"، تجمع القوى السياسية اللبنانية، على ضفتي الثامن والرابع عشر من آذار على التهديد القائم في الجرود الفاصلة مع سوريا، لا سيما في جرود بلدة عرسال البقاعية، وسياسة "النأي بالنفس" التي تغنى بها البعض على مدى أشهر طويلة لم تعد تنفع، حيث دفعت مجريات معركة جبال القلمون السورية إلى أن يكون الداخل اللبناني مخرج الجماعات المسلحة الوحيد، لكن الإختلاف في طريقة التعامل مع هذا الخطر واضح.

بالنسبة إلى قوى الثامن من آذار، لا يمكن التعامل مع الإرهابيين إلا من خلال المعادلة الذهبية الشهيرة، الجيش والشعب والمقاومة، التي عبّر عنها الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير في عيد المقاومة والتحرير، مع الأخذ بعين الإعتبار واقع عرسال الخاص، بحيث تكون المقاومة مسؤولة عن إستكمال المعركة في جرود البلدة، في الوقت الذي تتولى فيه المؤسسة العسكرية مهمة منع تسلل المسلحين إلى داخلها.

وتشير مصادر هذه القوى، عبر "النشرة"، إلى أن الإلتفاف الوطني حول هذه المعادلة، التي أثبتت نجاحها في مقاومة الإسرائيلي، سيكون كفيلاً في منع إستغلال الأوضاع من قبل بعض الجهات والشخصيات المتطرفة، وتلفت إلى أن إصرارها على هذه الإستراتيجية لا ينبع من عدم ثقتها بالجيش وباقي الأجهزة الأمنية بل من إدراكها لطبيعة المعركة التي تتطلب قدرات وإمكانيات خاصة، وتلفت إلى أنّ "المقاومة أثبتت جدارتها في هذا النوع من المواجهات خلال المعارك الأخيرة في الجانب السوري من الحدود".

من وجهة نظرها، المشكلة الأساسية ليست في طريقة التعامل مع هذا الخطر بقدر ما هي بالإعتراف الفعلي فيه، حيث تعتبر أن البعض في الفريق الآخر لا يزال يرفض تصنيف الجماعات المتمركزة في تلك المناطق بـ"الإرهابية"، بالرغم من القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي بهذا الشأن، ومحاكمة عناصرها أمام القضاء اللبناني المختص على هذا الأساس.

في الجهة المقابلة، تبدو الأمور مختلفة، تنطلق مصادر نيابية في كتلة "المستقبل" من كلام رئيس الحكومة السابق سعد الحريري الأخير لتوضح موقفها، وتجدد القول: "موقفنا من الجماعات الإرهابية ليس بحاجة إلى شهادة من أي جهة"، لا سيما أنها ستكون المتضرر الأول في حال تنامي نفوذها باعتراف الأمين العام لـ"حزب الله" نفسه، إلا أنها تحمل الحزب مسؤولية وصول الأوضاع إلى ما هي عليه اليوم، نتيجة تدخله في المعارك الدائرة على الأرض السورية.

وترفض هذه المصادر، عبر "النشرة"، نظرية الحرب الإستباقية، فهي لا تزال تعتبر أن "لبنان كان قادراً على البقاء بعيداً عن هذا الحريق، من خلال الإهتمام بشؤونه الداخلية بعيداً عن معارك الدفاع عن نظام يرفضه شعبه خدمة لمصالح إيران في المنطقة"، وتضيف: "حماية الحدود كانت ممكنة من خلال الإستعانة بالقوات الدولية خصوصاً أن القرار الدولي رقم 1701 يسمح للحكومة اللبنانية بذلك".

وترى قوى الرابع عشر من آذار أن معادلة الجيش والشعب والمقاومة إنتهت مع تشكيل حكومة تمام سلام الحالية، وتوضح أن المطلوب لمواجهة الأخطار المتعددة العودة إلى الإلتزام بالشرعية المتمثلة بأجهزة الدولة الرسمية وحدها من دون أن يكون لها شريك في حمل السلاح، خصوصاً أن تدخل جهات مذهبية في هذا الأمر سوف يساهم في تفاقم المشكلة لا حلها.

من جانبها، تطرح مصادر قوى الثامن من آذار العديد من علامات الإستفهام حول إستراتيجية الفريق الآخر، وتسأل: "هل كانت الجماعات الإرهابية لتحترم حدود الدولة اللبنانية في حال سيطرتها على المناطق السورية المحاذية؟ هل من الممكن الإتكال على القوات الدولية في إتمام هذه المهمة، في الوقت الذي يعرف الجميع أن تحمل هذه القوات المسؤولية سيكون هدفه مراقبة طرق إمداد المقاومة لا الدفاع عن لبنان، لا سيما أن التجارب السابقة تؤكد أنها تنأى بنفسها ولا تواجه أي خطر؟ هل الأجهزة الأمنية حصلت على الأسلحة اللازمة التي تؤهلها خوض مواجهات الجرود، مع العلم أن الأسلحة التي يملكها المسلحون هي أفضل من تلك التي لدى الجيش؟"

أما بالنسبة إلى خطر مذهبة الصراع، فتؤكد هذه المصادر أن قوى الرابع عشر من آذار هي المسؤولة عنه أولاً وأخيراً من خلال خطابها السياسي، وتشير إلى أن مواقفها في الفترة الأخيرة لم تستثن المؤسسة العسكرية، التي وصفها بعض أركان هذا الفريق بالمذهبية، وتضيف: "في الحالتين التحريض سيكون حاضراً في المعركة".

ورداً على هذه الأسئلة، تجزم المصادر النيابية في كتلة "المستقبل" أن مواقفها الرسمية، التي تعبّر عنها بيانات الكتلة وتصريحات الحريري، لم توجه أي إنتقاد للأجهزة الأمنية، لا بل هي على العكس من ذلك في كل مرة تؤكد دعمها لها، وتذكر بأن رئيس الحكومة السابق كان أول المتصلين بقائد الجيش العماد جان قهوجي، خلال معركة عرسال الأولى، معلناً الوقوف إلى جانب المؤسسة العسكرية.

في المحصلة، الإتفاق على إستراتيجية وطنية لمواجهة الإرهاب أصعب من الإتفاق، الذي لم يحصل، على واحدة لمواجهة التهديدات الإسرائيلية، فهنا تدخل الرهانات على تبدل الأوضاع في المنطقة والإلتزامات بالتحالفات الإقليمية، وبالتالي لن تنفع البيانات والنصائح العابرة للمنابر في تبديل وجهات النظر التي ستبقى على حالها، مع العلم أن الجماعات الإرهابية هي أكثر المستفيدين من الإنقسام الحالي.