لم تعد القصّة قصّة احتقانٍ يجب تنفيسه، كما أنّه لم يعد جائزًا تصنيفها في سياق الاختلاف الصحّي الذي لا يفسد في الودّ قضية..

لا شكّ أنّ ما هو أكثر من الودّ بكثير قد فسد بين "حزب الله" و"تيار المستقبل"، وما الخطاب الناري "المتفجّر" المعتمَد من الجانبين إزاء بعضهما البعض سوى خير دليلٍ على ذلك، خطابٌ نسف بطريقه كلّ "الأهداف المُعلَنة" للحوار بينهما..

وإذا كان هذا الحوار لا يزال "صامدًا" رغم عدم وجود أيّ "مقوّماتٍ ملموسةٍ" له، فإنّه بات بنظر الأغلبية العُظمى، "لزوم ما لا يلزم" بكلّ بساطةٍ وصراحةٍ!

تهديداتٌ وتهديداتٌ مضادة..

منذ بدء الحوار بين "تيار المستقبل" و"حزب الله"، والشارع "المستقبلي" خصوصًا يغلي، على خلفية ما اعتُبرت "تنازلاتٍ" أطاحت بشعاراتٍ رفع فيها "التيار الازرق" السقف إلى أعلى المستويات، خصوصًا يوم أطلق شعار "لا للجلوس مع القتلة". لكنّ قيادة "المستقبل" يومها مضت بحزم في حوارها بوصفه قراراً استراتيجيًا اتّخذته، لدرجة أنّها شطبت اسم النائب خالد الضاهر من صفوف الكتلة "الزرقاء" بسبب عدم التزامه بسياسة "المهادنة" التي انتهجتها.

استمرّ ذلك إلى أن أتت "عاصفة الحزم" فقلبت كلّ الأوراق. شمّرت القيادة "المستقبلية" عن زنودها، ووضعت الحزب نصب أعينها. باتت تتابع خطاباته وتترقّب إطلالاته أكثر من جمهوره نفسه، وتنتظره "عالدقرة". لم تعد خطابات الأمين العام السيد حسن نصرالله تنتهي، إلا ويلحقها بعد دقائق ردّ مفصّل من رئيس "تيار المستقبل" ​سعد الحريري​، مرفقا بـ"حملة" واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي.

وليكتمل "السيناريو"، حوّلت "الحبّة" إلى "قبّة"، على حدّ تعبير مصادر في قوى "​8 آذار​"، عندما ضخّمت عبارة قالها رئيس كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب محمد رعد وقرأت فيها "تهديدًا بالقتل"، بل ذهبت لحدّ دعوة القضاء للتحرّك بوصفها إخباراً، في حين أنّ اعتماد هذا المنطق يقود إلى اعتبار كلّ تصريحات قياديي "المستقبل" تهديداتٍ لا تقلّ خطورة عمّا اعتبروها "تهديدات" من الجانب المقابل لهم.

ماذا يريد الحريري؟

كلّها عوامل تدلّ على "إفلاسٍ" بكلّ ما للكلمة من معنى، ترى هذه المصادر، وهي تشتمّ منها رائحة "انقلابٍ" على الحوار يسعى إليه "المستقبل" بكلّ ما أوتي من قوة، ولكن على طريقة "الإحراج فالإخراج". توضح أنّ المقصود من هذه الممارسات ربما وضع "حزب الله" في الزاوية، لعلّه "يبادر" هو، فيطلق "رصاصة الرحمة" على حوارٍ لا فائدة مرجوّة منه، وعندها يصوّر "المستقبل" نفسه وكأنّه الحريص الذي تعالى على "الجرح" ووافق على مضض على الحوار، فإذا بالآخر ينقلب عليه، من دون أن يكترث بالتداعيات المحتملة لذلك على صعيد الشارع.

برأي مصادر "8 آذار"، فإنّ سلوك "تيّار المستقبل" في هذه الفترة لا يمكن أن يُقرَأ خارج هذه الزاوية. هي لا تجد تفسيراً واقعياً لمطوّلات رئيس التيار سعد الحريري "المتعاطفة"، على حدّ تعبيرها، مع التنظيمات المتطرفة، ومنها "جبهة النصرة" التي ذبحت جنودًا لبنانيين، بل حتى "داعش"، وإن قال مراراً وتكرارًا أنّه لا يحتاج لشهادة "حسن سلوك" في موقفه إزاءها.

تتوقف المصادر في هذا السياق عند الخطاب الأخير للسيد نصرالله، والذي قال فيه ما حرفيّته أنّ "أهل عرسال أهلنا وإخوتنا وأحباؤنا وجزء عزيز من شعبنا ولا نقبل أن ينالهم سوء أو يتصرف معهم أحد بغير مسؤولية"، فإذا بالحريري يردّ بنبذ معادلة "الجيش والشعب والمقاومة"، قائلاً أنّ "الدفاع عن الأرض والسيادة والكرامة ليست مسؤولية حزب الله لا في عرسال ولا في جردوها ولا في أي مكان آخر"، بعد أن سبق أن أطلق معادلة "عرسال خط أحمر".

توضح المصادر في هذا السياق أنّ الأمين العام لـ"حزب الله" أصلاً دعا الدولة لتحمّل مسؤولياتها في هذا السياق، ولكنها تلفت إلى أنّ الدولة تحتاج في ذلك لغطاءٍ لا يزال بعيد المنال بسبب فيتو تيار الحريري نفسه، وتسأل: "ماذا يريد الحريري بالضبط؟ هل يريد من المقاومة أن تتفرّج على حدودها تُنتهَك وتُستباح من قبل التنظيمات الإرهابية، فيما مؤسسات الدولة عاجزة عن صدّها؟ إلى متى يريد أن يغمض عينه عن واقع أنّ الإرهابيين باتوا متغلغلين بيننا، شاء من شاء وأبى من أبى؟"

ملاذنا الدولة!

"ملاذنا الدولة وخيارنا ان نعيش في الجمهورية اللبنانية، نلتزم دستورها وقوانينها وقواعد العيش المشترك بين ابنائها، وأي خيار آخر هو قفزة في المجهول ورهان على احلام ابليس في الجنة". بهذه العبارات المقتطعة من بيان الحريري، تتسلّح مصادر "تيار المستقبل" في المقابل لتردّ على منطق الحزب، الذي تقول أنه لو آمن بهذا الخيار منذ اليوم الأول لجنّب الوطن الكثير من المآسي التي تعرّض لها.

لا تقتنع هذه المصادر بالمقولة القائلة بأنّه لو لم يكن "حزب الله" بالمرصاد للمجموعات التكفيرية لكانت اليوم تتنزّه في المناطق اللبنانية، بعد أن تكون قد حوّلتها لـ"إمارات" تابعة لها، ولا يعني لها شيئاً حصول هذا النموذج في دولٍ أخرى لم يتواجد فيها الحزب. هي مقتنعة بأنّ تورّط "حزب الله" في المستنقع السوري هو الذي أدخل اللبنانيين في ما تسمّيها بـ"حفلة الجنون"، بدليل أنّ لبنان كان يعيش في "نعيم" قبل ذلك "اليوم المشؤوم". ولكنّ الأوان لم يفت بعد، تقول المصادر، مشيرة إلى أنّ المطلوب اليوم أن يكفّ الحزب يده، لتقوم المؤسسات الشرعية بدورها في حماية لبنان كما يجب.

ترفض المصادر "المستقبلية" أيضًا القول أنّها تسعى لإنهاء الحوار مع الحزب. توضح أنّ القرار بدخول الحوار لم يكن سهلاً لكنه كان حازمًا. وتشرح قائلة: "نستطيع أن ننهي هذا الحوار في أيّ لحظة من دون مقدّمات، إلا أنّنا مقتنعون بأهميته، وندرك أنّ الوضع كان ليكون كارثياً من دونه"، وتضيف: "في الموقف السياسي، كلانا ذهبنا بعيدًا. موقفهم متشنّج وأكثر، ونحن لم نقصّر أيضًا، ولكن على طريقتنا، بعيداً عن التهديد والرعد والزمجرة".

أيّ بقاءٍ للبنان؟!

في الخلاصة، ما يباعد بين "المستقبل" و"حزب الله" أكثر بكثير ممّا يقرّب بينهما، إذا كان هناك ما يزال يقرّب بينهما، وسط "عاصفة الجنون" التي تحيط بهما من كلّ حدبٍ وصوب..

يكفي أنّ الحزب يخوض ما يعتبرها "معركة وجودية" ضدّ التنظيمات التكفيرية "من أجل لبنان"، في حين أنّ التيار لا يرى فيها سوى الجنون، ويطلب وضع حدّ لها "من أجل لبنان" أيضًا لإدراك مدى التباعد بينهما..

ولكن، أبعد من ذلك، وإذا كان الحريري لا يعنيه من الحرب القائمة سوى "بقاء لبنان" كما قال، يبقى السؤال الأكبر، أيّ بقاءٍ للبنان إذا ارتضى التفرّج على الإرهاب يستبيح أرضه وعرضه وسيادته؟!