مرّ عام على شغور رئاسة الجمهورية. كثيرون، ربما، لم يشعروا بسوء من الأمر، خصوصاً عندما يتذكر هؤلاء من كان آخر شاغلي القصر. ولكن الأصعب هو أن القوى السياسية القابضة على الدولة لا تتصرف وكأنها معنية بمعالجة جدية وعاجلة لهذه المعضلة. وبينما يحاول المسلمون، وفق تركيبة البلاد، رمي كرة المسؤولية على المسيحيين لاختيار الرئيس الجديد، يمارس السنّة والشيعة، عملياً، حق الفيتو، بما يجعل التفاهم على الرئيس مرتبطاً بتفاهمات على ملفات أخرى، لا تقل تعقيداً عن ملف الرئاسة نفسه. ومن خارج لبنان، هناك الحسابات التي لا يحتاج اللبنانيون إلى التعرف إلى مشاكلها أكثر.

لكن هذا العام لم يكن استثنائياً بما يحول دون اختيار رئيس جديد. لم يشهد لبنان حرباً أهلية، ولا كارثة طبيعية كبيرة، ولا تعطلاً لإدارات الدولة المدنية أو العسكرية. وظل الناس ينامون ويستيقظون ويذهبون إلى أعمالهم ويعودون وينفقون ويسافرون ويزورون ويأكلون ويشربون. لم يحصل انهيار يقود إلى كارثة وطنية سياسية أو أمنية أو اجتماعية. لم نشهد تدهوراً لسعر النقد الوطني، ومعدلات الدين العام بقيت عند حدودها. ولم تصدر بحق لبنان قرارات دولية أو عقوبات تشلّه. وفي هذا العام، لم نشهد تغييرات على صعيد بنى القوى السياسية القائمة. لم يستقل زعيم، ولا رئيس حزب، ولم تحصل انشقاقات. ولم يتعدل المزاج العام لدى الكتل الشعبية المتحركة وفق حساسيات سياسية أو طائفية أو مذهبية. ولم نشهد أي معركة من النوع الذي يفرض تعليق العمل بالدستور، ولا إعلان حالة الطوارئ العامة. ولم نشهد استقالة لحكومة تصريف الأعمال، برغم كل الصعوبات التي تواجهها. ولم تحصل انتفاضة شعبية تطالب بانتخابات نيابية عاجلة. ولم يتوقف صرف المال العام. ولم يحصل غضب بسبب عدم وجود موازنة كما هي الحال منذ سنوات طويلة.

ما حصل، هذا العام، أمر واحد واضح لا لبس فيه، هو أن الفرقاء الطائفيين في البلاد يختلفون على تمثيل شريكهم المسيحي في رأس الدولة. الشيعة (حزب الله أساساً ومعه الرئيس نبيه بري، ولو على مضض) يدعمون العماد ميشال عون، مستندين إلى قوة شعبية واضحة عنده، سواء في الشارع أو في التمثيل النيابي. السنّة يدعمون ظاهراً قائد «القوات اللبنانية» سمير جعجع، لكنهم يعارضون عملياً وصول العماد عون. ويريدون رئيس تسوية، من الصنف الذي يمثل، عادة، ومنذ قيام اتفاق الطائف، رئيساً يرضي المسلمين، لكنه لا يمثل القوة الفعلية في الشارع المسيحي.

إما تغيير جذري للنظام الطائفي

وإما إقرار بحق المسيحيين باختيار الرئيس

أو فتح الباب أمام الخراب

أما الدروز، وبرغم تراجع نفوذهم بصورة حادة خلال العقد الأخير، فإنهم يتصرفون على أن ما بيدهم من أصوات يخولهم المبارزة. زعيم الغالبية بينهم وليد جنبلاط لا يريد عون ولا جعجع، بل يريد رئيساً مسيحياً ضعيفاً ونقطة على السطر. أما بقية اللبنانيين، فانقسامهم على ما هو عليه، بين داعم لعون، وبين رافض له. والمشترك الفعلي بين الجميع هو أن جعجع ليس مرشحاً بحد ذاته، بل إن هدف ترشيحه هو، حصراً، إبعاد العماد عون.

عملياً، يمكن القول، باختصار، إنه ليس في العالم أي تجربة شبيهة. وقد وصل الجميع إلى المأزق. وفي هذه الحالة، سيكون الناس أمام تحدي الاختيار. إما جولة من الانقسامات العنيفة، حتى يجري تعديل موازين القوى لفرض هذا الخيار بدل ذلك، أو القبول بالحل الوسطي والوحيد اليوم، وهو العودة إلى من ينطق كل هؤلاء باسمهم، أي العودة إلى الشعب. وفي هذه الحالة، يمكن، ببساطة، إما الركون إلى الوقائع كما هي، من خلال القبول بمبادرة العماد عون، أو دعوة أصحاب الحقوق إلى البحث عن وسيلة لكي يفرضوا على الآخرين احترام حقوقهم وحفظها.

هل نحن أمام عقدة حقيقية؟

يبدو من خلال معطيات جدية أننا كذلك، وأن ما يعلنه العماد عون يمثل نقطة تحول في المشهد السياسي. وأي محاولة للتعامل معها كما يجري التعامل مع الملفات الداخلية الأخرى، يعني عدم فهم حقيقة المتغيرات الكبيرة التي حصلت في لبنان والمنطقة. وهي متغيرات، تفرض على تيار المستقبل، بالدرجة الأولى، وعلى حلفائه في فريق 14 آذار ثانياً، على وليد جنبلاط ونبيه بري ثالثاً، النظر إلى الأمر من زاوية واضحة: إما القبول بمعادلة متساوية على صعيد اختيار الطوائف لمن يمثلها في مؤسسات السلطة، أو انكسار لهذه المعادلة، ودعوة المسيحيين المتضررين، ومن يقف إلى جانبهم من القوى والطوائف الأخرى، إلى البدء بالاستعداد لمرحلة جديدة من المواجهة، ستقود حتماً إلى نتيجة واحدة: تعديل جوهري واضح في الدستور!

ومن يرد تبسيط الأمور، يمكنه العودة إلى القواعد القائمة للعبة. يعني، إن لم ينجح اللبنانيون بتغيير قانون الانتخابات النيابية، ما يقود إلى إفساح المجال أمام تغيير تدريجي أو شامل للنظام الطائفي، فإن البديل هو التزام الجميع المساواة على صعيد التمثيل الطائفي في الدولة. وفي هذه الحالة، مثلما يرضى الجميع، وخصوصاً القوى صاحبة النفوذ في الدولة، بأن تيار المستقبل هو من يرشح رئيس الحكومة وغيره من المناصب، وأن حزب الله وحركة أمل يرشحان رئيس المجلس النيابي وغيره من المناصب، وأن وليد جنبلاط يختار من يمثل الغالبية الدرزية في مؤسسات الدولة، فإن على هؤلاء القبول بأن يترك للمسيحيين اختيار من يمثلهم في رئاسة الجمهورية وغيره من المناصب في الدولة.

وإذا كانت حجة فريق المسلمين أن المسيحيين منقسمون حول هوية المرشح لمنصب الرئاسة أو غيره، وكل طرف يدعي أنه يمثل الكتلة الأكبر، فلا مجال لأي علاج واقعي، إلا باللجوء إلى الناس. هؤلاء من يختارون من بين المسيحيين من يرون أنه الأفضل لهذا المنصب. وبالتالي، إنّ آلية الوصول إلى هذه النتيجة، إما تستند إلى واقع الغالبية النيابية المسيحية الحالي، وإما اللجوء إلى استفتاء المسيحيين. وفي الحالتين، يمكن إنجاز الخطوة التي تفتح الباب أمام متغيرات كبيرة وجوهرية على صعيد عمل مؤسسات الدولة كافة.

في هذه الحالة، فقط، يمكن مجلس النواب أن يحاسب بقوة دونما تسويات من هنا وهناك. وفي هذه الحالة، فقط، تستعيد مؤسسة مجلس الوزراء التوازن الذي يبقيها في حالة عمل وإنتاج. وفي هذه الحالة فقط، تفتح الأبواب أمام فرصة بناء بقية مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية والمالية والإدارية.

ما يبدو أنه بحاجة إلى توضيح، أن هذا الأمر لم يعد حكراً على أفكار عند العماد عون فقط، بل صار بنداً على جدول أعمال حلفاء أقوياء له في لبنان وخارجه. ومن يرد الاستمرار في تجاهل هذه الحقيقة، ويفكر في تعريض لبنان لاختبار قوة جديد، فسيخطئ إن فكّر في معالجة إقصائية لملف التعيينات الأمنية والعسكرية!