من نوافل الأمور أن يلفظ اللبنانيون الفراغ على مستوى الرئاسة، إذ ليس محمودًا أن يدوم في ظلّ محيط متأزّم وإقليم عاصف ومدى محترب، ترسم فيه وبواسطته خرائط سياسيّة بقوالب استراتيجيّة، يبقى فيه لبنان نقطة الاجتذاب. المفارقة الواضحة أن لبنان وفي أثناء الحروب التي تراكمت على أرضه، لم يبلغ حقبة الفراغ في سدّة الرئاسة(1).

يقود هذا السياق، إلى المقارنة المذكورة بين مرحلة الحرب ومرحلة الطائف ومن ثمّ اتفاق الدوحة ليكتشف المرء وقياسًا إلى حقبة الاستقلال أيضًا، بأنّ لبنان لم يستخدم فيه الفراغ إلاّ كإطار متصل بأحداث تاريخيّة وجوهريّة. فالفراغ قبل الطائف أنتج رئيسًا كانت مهمته الأساسيّة تطبيق الطائف بالقوّة، وارتكز كلّ ذلك على الانقسام العموديّ بين المسيحيين، فجاء الطائف مكرّسًا منطق الغالب والمغلوب، فطار الحقّ المسيحيّ بسبب الانقسام العموديّ وبات المسيحيون مستولدين ومسحوقين في كثير من المواقع. ولم يعد للرئيس كلمته الفعّالة التي تتيح له الكلام في حقوق المسيحيين، وتزامن ذلك مع رعاية سورية-سعوديّة وقرار دوليّ أميركي واضح في هذا الخصوص. تلك الرعاية أفرزت بصورة واضحة تغييرًا جذريّا على مستوى الداخل اللبنانيّ بتكوينه الطائفيّ والمذهبيّ، ممّا سمح بتصاعد الحقبة الحريريّة، مغتذية من الضعف المسيحيّ بعدما اقتاتت منه واستهلكت المسيحيين في مدى النطق والقرار باسمهم.

الفراغ الثاني اختلطت فيه الأوراق من جديد، فالتغمت الأرض من جديد بصراع سعوديّ-سوريّ، وسنيّ-شيعيّ، ما لبث أن حسم باتفاق الدوحة، ومن رحمه ولد رئيس جديد للجمهوريّة. طمح العماد ميشال عون لرئاسة الجمهوريّة كممثّل قويّ للمسيحيين، غير أنّ معايير القوى لم تكن لصالح هذا الطموح، فما لبث أن تنازل لمصلحة قائد الجيش العماد ميشال سليمان. وللأسف أكمل عهد سليمان ما كان سائدًا في الحقبة الحريريّة، فبقي الحقّ المسيحيّ مهدورًا على كلّ المستويات. المفارقة أنّ سليمان لم يتمّ التمديد له، على عكس الرؤساء السابقين، على الرغم من طموحه إليها، لكنّ خلافه الواضح مع "حزب الله" في مسألة السلاح وإعلان بعبدا، وخلافه مع العماد عون أجهض السعيَ، ناهيك بتصاعد القوى التكفيريّة على حساب الربيع العربيّ، وانفجار سوريا بثورة اغتذت منها القوى التكفيريّة وحوّلتها لحرب مذهبيّة، أطلّت على حدود لبنان، وتراكمت أحداثها في داخله في طرابلس وعرسال وعكار وصيدا... ولتستكمل مشروع قضم حقوق المسيحيين في المواقع التي عادت إليهم، لتنطلق من جديد معركة استعادة الحقّ المهدور مسيحيًّا بواسطة مشروع اللقاء الأرثوذكسيّ الانتخابيّ، الذي شدّد على المناصفة الفعليّة. السعي من هذه الزاوية تكثّف لتوضيح مفهوم الرئيس القويّ الذي يمثّل الوجدان المسيحيّ بأكثريته الساحقة في ظلّ مشروع تهجير المسيحيين من المشرق العربيّ في سوريا والعراق، وقد حصل ذلك على وجه التحديد في العراق.

الفراغ الحاليّ مختلف في جوهره عن الفراغين مع فارق واضح بأنّه يملك التوق على مستوى علاقة المكوّنات اللبنانيّة باستعادة القرار المسيحيّ بواسطة مشروع انتخابات يحقّق المناصفة، وتاليًا انتخاب رئيس مسيحيّ قويّ يملك مشروعيّة التمثيل فيتحقّق التوازن الداخليّ بتركيز تلك المشروعيّة وتجذيرها على الأرض فيأتي التجذير بمحتوى يطلّ على معاناة المسيحيين المشارقة من سوريا إلى العراق فمصر. لا يرنو التوق المسيحيّ إلى تغيير بنية النظام السياسيّ بالعمق التكوينيّ، ولكنّه يتطلّع إلى تحقيق المادة 95 منه، وتعديل بعض الصلاحيّات بحيث لا يبقى رئيس الجمهوريّة راعيًا على القاعدة الإنكليزيّة، يرعى ولا يحكم، Il reigne mais il ne gouverne pas بل تكون له فاعليّة الحكم برقيّ وعدل، وبتواصل دائم ومتوازن مع كلّ المكوّنات المؤسسة للكيان اللبنانيّ هذا يستدعي عدم انتخاب رئيس هزيل وضعيف، فتتمّ الانتفاضة على منطق الغالب والمغلوب التي تكرّست في الطائف. ذلك أنّ تكريس هذا المنطق أبطل مفاعيل الميثاق الوطنيّ على كلّ المستويات، فلم يعد بمقدور الجميع معالجة الخلل الطائفيّ والبنيويّ إلاّ بتسوية متوازنة لا تزال قيد البحث والجدال.

غير أن الفراغ الحالي ليس محصورًا فقط بهذه الناجية المحليّة الجوهريّة. بل إنّ المحتوى المشار إليه، بات مرتبطًا بالصراع الدائر في المنطقة، وبالنتائج على الأرض. الفرقاء السياسيّون المتصارعون على الأرض مدركون بأنّ حسم مسألة الرئاسة بالدرجة الأولى، بالمطالب والأهداف التي وضعوها لأنفسهم ونصب أعينهم، مأخوذة إلى إلى التكوين الجديد للمنطقة. بعض من هذا التكوين المرتبط بالصراع السعوديّ-الإيرانيّ، من اليمن إلى سوريا، بنتائجه الحقيقيّة والواقعيّة، سينساب أو يتسلّل إلى الداخل اللبنانيّ، من البوابة العرساليّة بما يشبه بحسب مصدر سياسيّ الحراك في 7 أيّار والذي أفضى إلى اتفاق الدوحة، مع فارق بسيط بأنّ اتفاق الدوحة استكمل إجهاض الحقّ المسيحيّ، في حين أنّ "حزب الله" في واقعه الحالي مقتنع بضرورة السعي إلى استعادة المسيجيين لموقعهم وموجوديّتهم من رئاسة الجمهوريّة إلى قيادة الجيش وإلى معظم المواقع التي تتيح لهم التوازن مع كلّ المكوّنات الأخرى. "حزب الله" مقتنع بصورة جوهريّة بضرورة إعادة الاعتبار إلى الديمقراطية الميثاقيّة والتشاركيّة في العمق اللبنانيّ وتفعيلها في عمل السلطة السياسيّة ومؤسساتها. ويذهب هذا المصدر إلى الاعتقاد بأنّ معركة الحزب بحيّزها اللبنانيّ، والمستندة إلى معركته مع التكفيريين من جرود عرسال إلى جرود القلمون، تمتلك خصوصيّة هذا العنوان بوجه الجميع حليفًا كان أو خصمًا، وهو ماض بدعم ترشيح العماد ميشال عون إلى الرئاسة حتّى النهاية.

هل قرب موعد دفن الفراغ وولادة رئيس للجمهوريّة؟ ليس من موعد محدّد لمراسم الدفن. ولكنّ أوساطًا سياسيّة تنصح وعلى وجه التحديد البطريرك مار بشارة بطرس الراعي بعدم الدعوة المتكررة إلى انتخاب رئيس للجمهوريّة، بل إلى انتخاب رئيس يمثل المسيحيين بكل ما للكلمة من معنى ويمتلك الخصوصية التي تؤهلّه للحفاظ على لبنان وطنًا كريمًا حاضنًا للجميع.

(1)في سرد تاريخيّ لتلك الحقبة، لقد بدأت الحرب أثناء عهد الرئيس الراحل سليمان فرنجيّة، ومع اشتدادها انتخب الياس سركيس رئيسًا، وبعد الدخول الإسرائيليّ انتخب بشير الجميل، ومن ثمّ وبعد استشهاده انتخب أمين الجميّل رئيسًا، وظلّ حتى سلّم العماد ميشال عون رئاسة الحكومة بسبب تعذّر انتخاب رئيس في لحظة بدأت المنطقة تميل إلى التغييرات الداخلية والخارجيّة.

وبعد تسوية الطائف التي سلبت حقوق المسيحيين بصورة مقيتة وأفرغتها لمصلحة رئيس مجلس الوزراء، وعلى ضوء مشاركة الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد في حرب الكويت لقاء العودة إلى لبنان، وقد كان للمقايضة أن تظهر في سعي اللجنة الثلاثيّة، وفي حثّها على إنهاء حالة العماد ميشال عون، وعلى هذا الأساس انتخب الرئيس رينه معوّض وما لبث أن استشهد يوم عيد الاستقلال لأنه رفض إنهاء تلك الظاهرة وتطبيق الطائف وتسويغ المقايضة عن طريق الدم والعنف، ومن ثمّ تمّ انتخاب الياس الهراوي رئيسًا، الذي قبل بإنهاء تلك الحالة عن طريق العنف ودخل لبنان عهد الوصاية السوريّة. مدّد للرئيس الهراوي، وبعد ذلك انتخب العماد إميل لحود رئيسًا للجمهوريّة في ظلّ أيضًا محطّات عاصفة على كلّ المستويات، تم التمديد لعهده وللتاريخ أن ينصفه، في لحظات حفلت باغتيالات سياسيّة هائلة أهمها اغتيال رئيس الحكومة وقتذاك رفيق الحريري، وبفعله ودمائه أخرجت سوريا من لبنان، ومن ثمّ أدخلت المنطقة في منطق الاحتراب المذهبيّ بدءًا من العراق، وكانت من أصعب مراحل لبنان. لقد كانت تلك المرحلة من أصعب المراحل اللبنانيّة حيث انتهت بعد ذلك بالفراغ. ومن الفراغ القسريّ بلغنا إلى أحداث 7 أيّار وقد أفضت بعد ذلك إلى انتخاب العماد ميشال سليمان رئيسًا للجمهوريّة.