إنها الجيوبوليتيك، أي الجغرافيا السياسية التي من دونها لا يمكن فهم السياسة، حتى وإنْ تمَّ فهمها فإنَّها تبقى معرفةً نظرية لا ترقى إلى مستوى التطبيق.

هذه المقدمة ضرورية لفهم ما يجري في عرسال وحول عرسال، وما يُطالَب أن تكون عليه عرسال، فمن دون معرفة جغرافيتها لا يمكن معرفة السياسة لا بل السياسات التي تدور في شأنها وحولها.

حدود لبنان مع سوريا تمتدُّ على طول 330 كيلومتراً، بينها خمسون كيلومتراً بين عرسال وسوريا، أي أنَّ حدود عرسال مع سوريا تُشكِّل واحد على ستة من الحدود المشتركة بين لبنان وسوريا. على الخط المترامي الأطراف تُطرح أهمية الجغرافيا في مقاربة الواقع السياسي، فلو أنَّ النسيج الطائفي لعرسال قريب من سوريا، كما هي الحال بالنسبة إلى مناطق أخرى في البقاع، لَما كانت هناك مشكلة، أما أن يكون النسيج الطائفي في عرسال غير متوافق مع سوريا، فعندها تصبح عرسال في موقع المواجهة معها ومع حلفائها.

ليست الحدود المشتركة هي الطويلة فقط، بل إنَّ مساحة عرسال أمرٌ يؤخذ بعين الإعتبار أيضاً، عرسال هي أكبر بلدة لبنانية من حيث المساحة إذ تبلغ 316 كيلومتراً، وهي مترامية الأطراف في البقاع الشمالي حيث النسيج الطائفي مختلف عنها.

هكذا، وانطلاقاً من الحدود المشتركة مع سوريا، وهي الأطول، والمساحة، وهي الأكبر، فإنَّ عرسال تحوَّلت من دون أن تدري إلى حالة إستراتيجية، فهي بالنسبة إلى المعارضة السورية عمقٌ جغرافي لا بد منه لمواجهة سوريا، والعكس بؤرة يجب ضبطها أو السيطرة عليها لئلا تبقى شوكةً في الخاصرة.

أضف إلى ذلك أنَّ هناك عاملاً في غاية الخطورة والأهمية مرتبط بعرسال، فعدد سكان عرسال لا يتجاوز الخمسين ألفاً فيما عدد النازحين إلى عرسال يتجاوز المئة ألف، وعليه فإنَّ عدد النازحين فيها هو ضعف عدد أبنائها.

هنا بيت القصيد.

فهناك مَن يطالب أبناء عرسال بما لا طاقة لهم على القيام به، وهو السيطرة على النازحين سواء داخل البلدة وصولاً إلى المرتفعات، وهناك مَن يطالب الجيش اللبناني بالدخول إلى البلدة وصولاً إلى السيطرة على المرتفعات الملاصقة للحدود مع سوريا. إنَّها مطالبة بالدخول في معركة على أرض مساحتُها نصف المنطقة الشرقية أيام الحرب، وللسيطرة على حدودٍ يشبه طولها المنطقة الممتدة من طرابلس إلى صيدا، ولكن مع مرتفعات وأرض متداخلة، لأنَّ ليس هناك ترسيم للحدود في تلك المنطقة. وكلُّ ذلك من أجل أن تكون الحدود من النهر الكبير شمالاً إلى تخوم عرسال شرقاً إلى مرتفعات جبل الشيخ جنوباً، تحت سيطرة واحدة.

الوصول إلى هذا الواقع أمامه عقبتان لتحقيقه:

الأولى أنَّ هناك مَن رسم خطاً أحمر سياسياً أمام هذا الهدف، وهو الرئيس سعد الحريري الذي أعلن أكثر من مرة أنَّ عرسال ليست مكسر عصا وأنَّ الأصوات التي تهدد عرسال بالويل والثبور وعظائم الأمور لن تحقق غاياتها مهما ارتفعت. أما العقبة الثانية فهي وعي الجيش اللبناني والعماد جان قهوجي تحديداً إلى رفض الإنزلاق إلى ما هو أبعد مما يسمونه تحرير عرسال أي تدمير عرسال وهو التوصيف الذي استعمله وزير الداخلية نهاد المشنوق بكل صراحة وشفافية.

وبناء على هذه الموانع، فإنَّ معركة عرسال إن حصلت ستحصد آلاف الضحايا.