«طحشة» تنظيم «داعش» الأخيرة في كلّ من العراق وسوريا وبنحوٍ متزامن تقريباً، أنتجت واقعاً جغرافياً جديداً بما يؤشّر إلى وجود غرفة عمليات واحدة ترسم الخريطة الجديدة. وفي اختصار هناك مَن يحاول تثبيت كيان سنّي يجمع ما بين غرب العراق والشمال الشرقي لسوريا، وله وظائف كثيرة مع كلّ الكيانات المجاورة.

جاء الاشتباك السياسي والتراشق بالتهم بين وزير الدفاع الاميركي وقائد فيلق القدس ليضيء على بعض من الزوايا الملتبسة والخلفيّات التي لا تزال غامضة حول كلّ ما يجري.

وقبل ذلك كان تصريح السيناتور جون ماكين واضحاً وضوح الشمس: «طائرات التحالف تعود من مهماتها وهي تحتفظ بحمولتها من القذائف»، أو بتعبير آخر، أراد رئيس لجنة الدفاع القول إنّ واشنطن ليست جدّية في محاربة «داعش» ما يدفع للاستنتاج السريع بأنّ أمام هذا التنظيم الارهابي برنامج عمل طويلاً سيتولّى تنفيذه خلال المرحلة المقبلة، وهنا مكمن القلق وبيت القصيد.

في سوريا تُرسم الخرائط من خلال تثبيت كيانات جغرافية قابلة للعيش مستقبلاً وتنظيف هذه الكيانات لتصبح مناطق نفوذ صافية.

من هذه الزاوية جاء السعي لتهديد منطقة اللاذقية معقل الرئيس السوري من خلال جسر الشغور. ومن هذه الزاوية تسعى تركيا من خلال «جبهة النصرة» لبسط سيطرتها الكاملة على حلب كخطوة ملزمة لضمان المنطقة السورية المحاذية للحدود معها.

في المقابل يستعدّ الجيش النظامي السوري ومعه «حزب الله» لمعركة طاحنة ومنازَلة قاسية اصبحت قريبة جداً ويهدف من خلالها لإحباط طموح تركيا في السيطرة على منطقة كبيرة وصافية ولها عاصمتها المهمة وهي حلب، وفي الوقت نفسه لاستعادة الثقة بالنفس ورفع المعنويات بعد الضربات الأخيرة التي أدّت الى انسحاب سريع من تدمر بلا خوض قتال فعلي، ما فتح شهية بعض المحللين للخروج باستنتاجات خيالية.

لكن بين هذا وذاك لا يبدو لبنان في منأى عن البراكين المشتعلة، خصوصاً أنّ البعض «صدّق» كذبة «لبنان - الجزيرة» المنيع عن تأثيرات التغييرات الهائلة الحاصلة قرب حدوده. فـ»داعش» الذي اجتاح تدمر إنما لم ينفّذ نقلته بهدف الوصول الى الآثار وتحطيم التماثيل الأثرية فقط، فبلا أدنى شك أنه يحضّر لخطوة عسكرية تالية وهنا السؤال الكبير.

الأوساط الديبلوماسية المتابعة بدت قلقة من نيات «داعش»، فهو يريد المنفذ البحري ومعه مزيداً من المناطق القابلة لمساعدته. لذلك فإنّ المراقبين العسكريين ينظرون بقلق الى احتمال اندفاع «داعش» الى حمص ومنها الى منطقة عكار اللبنانية في استعادة لهدفها بانتزاع الشريط اللبناني الشمالي. وبالتأكيد هذه الخطوة تعني الكثير بالنسبة لمشروع التنظيم الارهابي. وفي الوقت نفسه تدخل الفوضى من بابها الواسع الى قلب لبنان حيث الاستقرار فيه هشّ والنزاعات السياسية العنيفة تؤمّن البيئة المطلوبة لذلك.

«حزب الله» الذي يستمرّ في قضم ما تبقّى من تلال جبال القلمون باشر معارك «جسّ النبض» في جرد عرسال على أن يتفرَّغ لها بنحوٍ كامل بعد ضمان السيطرة المطلقة على جبال القلمون. وهو يبدو ملزَماً بالسيطرة على جرود عرسال، أولاً بسبب البنية التحتية لهذه التنظيمات التي تمّ تكريسها في هذه المنطقة، وثانياً لملاقاة «داعش» في حال قرّر الاندفاع في اتجاه مناطق عكار اللبنانية. وهو ما يعني أيضاً أنه سيضغط سياسياً لدفع السلطات اللبنانية من خلال الجيش لإنجاز ترتيبات أمنية جدية داخل بلدة عرسال وفي مخيمات النازحين السوريين المحيطة بها.

من هنا من المفترض أن تتصاعد حدة الخطاب السياسي داخل الحكومة، طبعاً الى جانب ملف التعيينات الامنية الذي يعتبره العماد ميشال عون معركة مصيرية ونهائية. لكنّ هناك كثيراً من نقاط الالتباس في هذا المجال ساهم في ضبابيتها بعض اصحاب الاستنتاجات المتسرّعة، اضافة الى بعض المسؤولين الكبار في «التيار الوطني الحر» لسبب أو لآخر. ذلك أنّ الصورة السائدة بأنّ عون سيعمد الى إيقاف أعمال مجلس الوزراء عند بند التعيينات الامنية في حال الفشل في ذلك، وبالتالي عدم مناقشة أيّ بند آخر طالما أنّ هذا البند لم يُبتّ.

وكذلك سيجد تيار «المستقبل» فرصة أخرى مستقبَلاً لإعادة تحريك عجلة العمل داخل مجلس الوزراء من خلال الضغط و»التضييق» على وزراء عون، ما يعني تجاوز مطبّ التعيينات من دون حصولها، خصوصاً أنّ استقالة الحكومة ممنوعة كون «حزب الله» ملتزماً ذلك امام المجتمع الدولي خصوصاً امام فرنسا من خلال إيران عند تشكيل الحكومة، وأّنّ أحد أهداف زيارة علي اكبر ولايتي لبيروت كانت للتذكير بهذه النقطة.

لكنّ هذه الصورة قد لا تعكس حقيقة المواقف فعلاً، فعون الذي لا يزال يدرس كلّ خطوة سيتخّذها رافضاً الاعلان المسبَق عنها، قد اتخذ قراره الاولي بتجميد اعمال الحكومة عند نقطة ملف التعيينات الامنية. لكنّ الصحيح أيضاً أنّ حزب الله، وخلافاً للكلام السائد، أبلغ إلى عون رسمياً أنه مستعدّ للسير وراءه في حال قرّر الاستقالة من الحكومة. فحسابات الحزب الداخلية، وعلى عكس ما هو رائج، تفضّل شطب الحكومة في إطار النزاع الكبير في المنطقة.

في اللقاء الاخير بين عون والامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله حصل نقاش مستفيض حول الاحتمالات كافة، لكنّ عون لم يذهب الى حدود طلب الاستقالة. لاحقاً أُبلِغ عون عبر القنوات الرسمية أنّ «حزب الله» يقف وراء أيّ قرار يتّخذه بما فيه الاستقالة.

ربما من هنا كان كلامه حول إما أن ينتصر في معركة او يكون شهيداً بما معناه اللعب «صولد».

في ايّ حال عندما سيدخل عون، وقريباً جداً، في لعبة «التعطيل»، لن ينفّذ تراجعاً من بعدها، لا بل على العكس سيندفع أكثر في اتجاه المجهول.

وحده السفير الاميركي ديفيد هيل قال لزواره الكثر من السياسيين: «معلوماتي أنّ العماد عون جدي في تعطيل الحكومة وإثارة أزمة سياسية كبرى. وأنتم تعرفون موقفنا وهو أنّ استقرار الحكومة أولوية الاولويات بالنسبة إلينا. لذلك تواصلوا وتحاوروا وتفاهموا».

طبعاً فإنّ هيل يقرأ الصفحة اللبنانية من خلال كتاب المنطقة ويدرك أنّ براكين إضافية ستنفجر، وأنّ اشتعالها سيطول كثيراً.