كلما أغلقت روسيا باباً في الأزمة الأوكرانية، تفتح لها الولايات المتحدة أبواباً جديدة بهدف استمرار النزاع، فالاستنزاف انطلاقاً من مفاهيم صراعية بأن القوة الروسية المتعاظمة ستكون العائق الرئيسي أمام التمدد الاستعماري الأميركي بمفاهيمه الجديدة.

آخر تحركات الولايات المتحدة في هذا السياق يتجسد في إعلان أوكرانيا على لسان أمين مجلس الأمن الوطني والدفاع؛ الكسندر تورتشينوف، أن بلاده لا تستبعد أن تدرس إجراء مشاورات حول نشر عناصر منظومة الدرع الصاروخية الأميركية على أراضيها، وهذا الأمر بغض النظر عن مسألة تطبيقه، والمدى الزمني المتوجب لإنهاء الخطوات، محاولة استفزاز عدوانية، ردّت عليها روسيا بسرعة فائقة على لسان الناطق باسم الرئيس الروسي ديمتري بيسكوف، وبدملوماسية صارمة وموجزة بالقول: "إذا كان المقصود أن أوكرانيا تخطط لنشر عناصر منظومة الدرع الصاروخية الأميركية على أراضيها، فلا يمكن إلا أن يكون موقفنا سلبياً، كون الأمر يمثّل تهديداً للاتحاد الروسي، وفي حال نشر منظومة الصواريخ ستتخذ روسيا بالضرورة إجراءات جوابية لتأمين أمنها الخاص".

لا شك أن الرسالة الروسية وصلت إلى العناوين المستهدفة، وأولها الولايات المتحدة، التي ورّطت أوروبا في فصول عدائية مع روسيا، على خلفية الأزمة الأوكرانية، وكذلك لأوروربا التي بدأت تعيد حساباتها في العلاقات المتردية مع روسيا، بعدما لحقت بها خسائر فادحة على المستوى الاقتصادي، خصوصاً أن الأميركيين لم يقدموا أي احترام لأوروبا التي نفّذت كل المطلوب منها أميركياً فيما خص الضغط على روسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية، ودفعت الأثمان الغالية، ولما حاولت عدم مجاراة واشنطن في التورط ما فوق العقوبات تلقّت الشتائم من العيار الثقيل، كتلك التي وردت على لسان مساعدة وزير الخارجية للشؤون الأوروبية والأوراسية؛ فيكتوريا نولاند، التي قالت لسفير الولايات المتحدة في كييف حين شكا لها الموقف الأوروبي: "فليذهب الأوروبيون إلى جهنم".

ورغم أن نولاند أوكرانية الأصل ويهودية، لم يستسغ الأوروبيون الإهانة، رغم احتوائها على مضض، لكنهم باتوا يتفهمون الموقف الروسي أكثر في الدعوة المستمرة إلى ضرورة تطبيق اتفاق مينسك، والموقف الروسي حول الاتفاق واضح في صرامته بوجوب التطبيق الحازم للاتفاق السلمي، والذي يشمل رفع لحصار عن إقليم "مونباس"، حيث الوضع الإنساني متردٍّ للغاية، وبالطبع الوضع الاجتماعي والاقتصادي.

الأميركيون الذين تيقنوا بأن الأوروبيين يكادون أن يفلتوا من قبضتهم في هذه القضية أرسلوا وزير خارجيتهم جون كيري إلى المنتجع الصيفي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين على جناح السرعة لينهي قطيعة زيارة روسيا، مع إعلانه التأكيد على ضرورة "عمل شيء ما للعلاقات الأميركية - الروسية"، وملامسته في الحديث وللمرة الأولى عن إمكان إلغاء العقوبات الغربية على روسيا عندما يبدأ تنفيذ اتفاق مينسك.

لكن هل تثق روسيا بالمحاباة الأميركية بشأن الملف الأوكراني؟ بالتأكيد أن الأمر يندرج في خانة المستحيل، ما لم تتوقف العرقلة من جانب كييف التي تتحرك بتعليمات أميركية - أطلسية بلا أدنى شك، وهذا الأمر ينتظر اللقاء الرباعي في النورماندي الذي يضم وزراء خارجية روسيا وألمانيا وفرنسا وأوكرانيا، حيث من المقرر أن يقدم الفرنسي اقتراحات، بعدما جرى استهلاك الوقت في محاولات زعزعة قاعدة اتفاقات مينسك وتشويه مضمونها، مقابل الإصرار الروسي على "التطبيق الصارم".

من الواضح أن الثقة مفقودة، لأن كلام كيري المعسول أمام بوتين إلى درجة وصفته "وول ستريت جورنال" الأميركية بقولها "آه! كم هو لطيف كيري مع السيد بوتين" وبدّدته الصحافة الغربية عبر الحملة المتناغمة التوقيت، وبالعبارات نفسها؛ باستهداف الرئيس بوتين بشكل شخصي على أنه شخص فاسد، ومرتشٍ، تشبه تلك الحملة التي استهدفت الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، والتي دفعت واشنطن مئات ملايين الدولارات لتسويقها في الإعلام، وقد اعترف المشرف على الحملة انذاك جيفري فيلتمان بذلك أمام الكونغرس.