ليس ​لبنان​ البلد الوحيد في العالم الذي تعتريه المشاكل ويتخبط بصعوبات سياسية وامنية واقتصادية ومالية واجتماعية... فالعديد من البلدان في العالم غارقة بما يغرق به لبنان كل يوم من مشاكل، ولكن ميزة هذا البلد امران: لا ترغب الدول في توريط نفسها فيه بشكل مباشر، وهو بقدرة قادر وبما يشبه المعجزة مستمر في الحياة بشكل شبه طبيعي.

وبعد مرور عام كامل على تسيّد الفراغ قصر بعبدا، وفي ظل الكلام عن "تمديد" سيحظى به لسنوات، تتجه الانظار الى الحكومة ومجلس النواب كمؤسستين باقيتين في فلك السلطات الرسمية الاولى تنفيذية والثانية تشريعية. ولكنهما ليستا بمنأى عن الخطر نفسه ايضاً، فالاولى تتعرض لهزة مزلزلة كلما اجتمعت وكان على جدول اعمالها بند من البنود الخلافية (من النفايات مروراً بالتعيينات الامنية وصولاً الى التدخل العسكري في عرسال...) فيتم اللجوء الى الحل الانسب وهو التأجيل!

والمجلس النيابي ينتظر في غرفة العناية الفائقة من يوقظه من سباته العميق وهو الذي مدد لنفسه كي لا يدخله الفراغ من الباب، فدخله من النافذة اذ يتمتع النواب باجازة طويلة مدفوعة لا يقومون فيها بأي جهد.

وفي ظل المخاوف المتكررة من فرط انعقاد الحكومة وعدم فعالية مجلس النواب، ماذا ينتظر لبنان واللبنانيين بشكل عام؟

بدايةً، لا بد من القول ان بقاء الحكومة بشكل فاعل او غير فاعل، اضافة الى بقاء مجلس النواب بالصفة نفسها، امر حتمي. ولكن في حال حصل امر ما غيّر في المعادلات الدولية التي تفرض بقاء لبنان كما هو عليه، فما هي الخيارات المتاحة؟

من المؤكد ان الامم المتحدة لن ترغب في التدخل من اجل اعادة لبنان الى حيوتيه في مثل هذه الحال، ففي غياب رئيس الجمهورية والحكومة ومجلس النواب، قد تجد الامم المتحدة نفسها مضطرة للتدخل لرعاية شؤون لبنان وهي مهمة لا يرغب فيها المجتمع الدولي لعدة اسباب، ومنها:

- ان لبنان بلد يثير القلق، فالتجارب السابقة اثبتت ان البعثات العسكرية الدولية لم يكن لها اي تأثير ايجابي على الارض، لا بل اعتبرت كقوات محتلة وتم التعاطي معها من قبل شريحة كبيرة من اللبنانيين على هذا الاساس. وبالتالي، لا ترغب اي دولة غربية ان تكون ضمن عداد اي قوة عسكرية في لبنان اياً تكن الظروف.

- ان الشعب اللبناني شعب مقاوم، ودخول قوات اجنبية على ارضه سيعتبرها قوات احتلال، وستتعزز المقاومة في كل منطقة وستؤدي الى خسائر بشرية كبيرة لا تحتملها الدول.

- ان واقع لبنان الجغرافي لا يساعد على اي حل سياسي او عسكري. فهو على عداء مع اسرائيل، فيما باتت حدوده الشمالية غير مستقرة ايضاً بفعل الحرب الدائرة في سوريا والتواجد الكبير للارهابيين على هذه الحدود، وبالتالي ستكون الجبهة مشتعلة فيما تفضل كل الدول عدم تعريض جنودها لاي خطر في مشكلة لا تنعكس بشكل مباشر عليها.

- في حال انتشار الفوضى، يصبح لبنان مرتعاً للمسلحين من مختلف الجنسيات والعقائد (فلسطينيون، سوريون، "داعش" واخواتها...) وسيكون بالتالي منطقة ساخنة جداً لا يمكن السيطرة عليها لان مرجعية هذه الافرقاء ليست واحدة بطبيعة الحال، وهو امر سيهدد مصير المنطقة بأكملها.

اما من النواحي غير العسكرية والامنية، فسيخسر المسيحيون موطىء القدم الوحيد المتبقي لهم في الشرق الاوسط في ظل الاضطهادات التي يعانون منها في الدول المجاورة (سوريا، العراق، مصر، دول الخليج...) وستتحول المنطقة بأكملها الى مسرح للخلاف السني-الشيعي وسط غياب الفاصل المسيحي.

ومن النواحي الاقتصادية سيخسر الغرب معبراً مهماً للتواصل مع الشرق الاوسط عبر البوابة اللبنانية، لن تعوضه المعابر الاخرى في الدول المجاورة لسنوات طويلة بسبب الفوضى التي تعم هذه الدول.

لا شك انها صورة قاتمة تعطى بالنسبة الى لبنان والمنطقة، ولكنها واقعية ويتم اخذها بالاعتبار، لذلك من المنصف القول ان بقاء لبنان على حاله في الوقت الراهن، ولو ان استمراره بتسيير الامور بهذا الشكل هو بحد ذاته اعجوبة (انقسام سياسي كبير، عدم تفويض مطلق للجيش للتحرك، قلق من الخلاف السني- الشيعي، صراع ايراني-سعودي...)، لان احداً لا يرغب في توريط نفسه بهذا المستنقع، ولم يعد يمكن تكليف دولة اخرى بهذه المهمة (كما حصل سابقاً مع سوريا).

وعليه، ايا تكن الخلافات، لن يكون لها تأثير عملي ولو "قامت القيامة" سياسياً ودستورياً في البلد، ولو امضى الوزراء والنواب اجازات مدفوعة لا نهاية لها، فـ"البلد ماشي".