منذ حملني القلم الى هنا تعبيراً عن سخط أو فكرة أو أمل أو رأي، ويطالعني أصدقاء كثر، سائلين بصيغة "على من تقرأ مزاميرك يا داود" (أو "بارود" اذا شئتم، بتصرف)، عن جدوى التعبير والكتابة، وكأنهم يأسفون للوقت الذي أمضيه مرتكباً بضعة اسطر يعتقدون غالباً أنها لن تقدم ولن تؤخر، بمعزل عن صوابيتها أو غرابتها أو حتى تفاهتها. وهم في ذلك على حق. فالزمن ليس زمن كتابة ولا هو زمن رأي. لا القراءة تلغي أزمة مستعرة ولا تغريد مقالة يعيد سرباً تائهاً. لا البلد وطن بحقّ، ولا ناسه مواطنون بحقوق. هم على حق: لماذا نكتب؟ وعلى من نقرأ، عذراً من داود النبي واستعارة منه، مزاميره المرنّمة؟

في زمن الرأي الواحد المكتفي بذاته، يخطئ منا من يعتقد ان تكوين الرأي العام لا يزال يعبر إلزامياً بعصف الافكار، جيدها وسيئها وما بين الاثنين من هوامش. يخطئ منا من يظن أن حضرة الرأي العام ينتظر عند منعطف افتتاحية أو مقالة أو عمود ليدعم موقفا أو ليسقط آخر. يخطئ منا من يعتقد، بشيء من الشاعرية التاريخية، أن قلماً يستطيع ان يقاوم مخرز التطرف الأعمى والظلامية السوداء. ومع ذلك، لا يزال بعضنا يكتب لا لشيء الا للتعبير عن ممانعة متعددة الوجه. يكتب ولا يدعي في الحقيقة إطلاقها. يكتب ولا يرفع الرأي واحداً احداً.

هذه الممانعة هي مقاومة. ومن قال ان الاحتلال يقتصر على الجغرافيا؟ هذه الممانعة هي شكل من أشكال رفض السقوط في مستنقع الاستسلام لأمر واقع ولو كان الاقوى. هي ممانعة في وجه صحراء يريد البعض لنا أن نجتازها لنواكب ايام المحل الاقليمية التي نعبر. هي ممانعة في وجه الاكتفاء بالتفرج ريثما تمر العاصفة، فيما نحن في عينها. ولذلك، فان المزامير لا بدّ ان تقرأ، بتنوع الاصوات التي تغني ولا تلغي.

على موقع "تويتر"، ثمة داود آخر، لا ينتمي الى العهد القديم ولا الى أي قديم، ينشر بين الحين والآخر لَذائعه المحبّبة بعنوان "مسامير – داود. ربما كان من الاجدى فعلاً ان نستبدل قراءة المزامير بقراءة المسامير. مسامير لا بد ان تدق، يوما، وبلا هوادة، في نعش نظام مهترئ لم يقم، مثلاً، بمراجعة نقدية لوثيقة مرجعية بنى عليها جمهوريته... نظام أضعف مناعتنا حتى بتنا لا نكتب ولا نقرأ، واذا ما فعلنا، تأسّفنا على الوقت الضائع كتابة أو قراءة. نظام أحل استيراد الافكار – والمواقف – محل صناعتها وطنيا. صدق وأصاب المخضرم سمير عطاالله في افتتاحيته أمس "إما روما وإما القيصر". قال خاتماً: "صحيح ان الربيع لا تصنعه سنونوة واحدة، ولكن ايضا لا تصنعه الف سنونوة تنق، بدل ان تغرد". كيف ننتقل من النق الى التغريد؟ كيف ننتقل من وصف الواقع المأزوم الى التحليق فوقه لنرى المدى الواسع والأفق الأوسع؟ نحمل محنة التاريخ ولعنة الجغرافيا، وانما نحمل ايضاً، وخصوصاً، نهائية لبنان وضرورته ورسالته وفرادته وفرصته كنموذج للتنوع ضمن الوحدة. ومن ثم، نناقش ما شئتم في آليات الحكم عندنا...

في هذا الوقت الضائع بالذات، بين تطرف وتحول، لا يحق لنا ترف الامتناع. علينا واجب الممانعة. وعلى ذلك سنستمر نقرأ... مساميرنا والمزامير...