للرئاسة الاولى في لبنان مكانة سياسية واجتماعية مميزة ودور ملتبس في احسن الاحوال ومعطل في اسوئها. الدستور هو النص المرجعي القانوني الاعلى في شؤون الحكم والسلطة، الا انه واقعيا دستور دولة ملتبسة الوظائف والادوار.

في الممارسة العملية الرئاسة الاولى في لبنان لا تشبه مثيلاتها في اي من الانظمة الرئاسية أو البرلمانية. انها اكثر من رئاسة فخرية بحسب الانظمة البرلمانية المعروفة، كما في بريطانيا حيث الملكية الدستورية او في ايطاليا والمانيا، واقل بكثير من الرئاسة في النظام الرئاسي (الاميركي مثلا) او في النظام المختلط، كما في فرنسا. النظام السياسي في لبنان برلماني في ما يخص العلاقة بين الحكومة ومجلس النواب، وهو ملتبس بالنسبة الى موقع رئيس الجمهورية ودوره.

موقع الرئاسة الاولى في زمن الانتداب الفرنسي لم يكن واضحا لجهة دور الرئيس وسلطته، حيث كان للمندوب السامي الكلمة الفصل في الشأنين الداخلي والخارجي. ولاحقا، بعد الاستقلال المتلازم مع الميثاق الوطني، ورثت الرئاسة الاولى صلاحيات المندوب السامي لكن من دون سلطة دولة الانتداب. ومنذ ذلك الوقت والرئاسة الاولى ضائعة بين الصلاحيات الواسعة التي ينص عليها الدستور والواقع السياسي بأبعاده الداخلية والخارجية وتفاصيله الطائفية والحزبية والمناطقية. فعند اشتداد الازمات، لا سيما تلك المرتبطة بالشأن الاقليمي، يتعطل دور الرئاسة ومهمة الرئيس، بمعزل عن هويته وموقعه السياسي داخل الطائفة المارونية وخارجها. هكذا تعطل دور بشارة الخوري بعد فك الارتباط مع رياض الصلح. وكذلك تعطل القرار الرئاسي في ازمة 1958 في عهد الرئيس شمعون لاسباب داخلية مرتبطة بانتخابات 1957واخرى، اكثر تأثيراً وأهمية، ارتبطت بالتحولات الاقليمية في زمن احتدام الحرب الباردة في المنطقة وتزايد النفوذ الناصري.

شكل عهدالرئيس شهاب حالة استثنائية، بعد انتقال ساحة المعركة من المشرق العربي الى اليمن مع تفاقم الصدام بين مصر والسعودية. هزيمة 1967 قلبت الموازين الاقليمية واعادت ساحة المعركة الاقليمية الى الاردن اولا ولاحقا الى لبنان بعد تمركز المنظمات الفلسطينية المسلحة. لم يستطع الرئيس حلو تشكيل حكومة في 1969 على رغم صلاحياته الدستورية الواسعة في ظل ممانعة رئيس الحكومة المستقيل رشيد كرامي والمكلف تشكيل حكومة الا بعد ازمة دامت سبعة اشهر وانتهت مع اقرار "اتفاق القاهرة" الذي أدخل لبنان عسكريا في النزاع العربي- الاسرائيلي لكن من الباب الخلفي. في سنوات الحرب تعطلت الدولة ومؤسساتها وانقسم الجيش ومعه البلاد التي وقعت تحت سيطرة التنظيمات المسلحة، المحلية والخارجية، وباتت الرئاسة الاولى، كما الرئاسات الاخرى والقوى السياسية، جزءا من لعبة السلطة بوسيلة العنف وتحول لبنان ساحة مباحة لصراعات المنطقة: العربية-العربية والعربية- الايرانية بعد 1980، وبين العرب واسرائيل.

انتهت الحرب بحسم عسكري وحُسم معها موقع الرئاسة الاولى في الدستور المعدل استنادا لاتفاق الطائف. وازداد الالتباس بعدما اصبح رئيس الجمهورية رئيسا للدولة ورمزاً لوحدتها، لكن في دولة تابعة وجمهورية جمهورها منقسم. الرئيس الاول في جمهورية الطائف رينيه معوض قضى اغتيالا بعد ايام على انتخابه. شغل الرئاسة الاولى في تلك المرحلة شخصيات موثوقة من دمشق لا رابط لها بالبيئة التي يفترض ان تمثلها. والرئيس الماروني كان الاقل تمثيلا بالمقارنة مع "رؤساء" الطوائف الاخرى. وازدادت الهوة بين مهمات الرئيس الدستورية وقدراته الفعلية في الحفاظ على ما انيط بدوره في الدستور، وهو دور الناظم لهيبة الحكم والسلطة وليس دور الحَكَم الذي لا ينص عليه الدستور على رغم تداوله الشائع في الخطاب السياسي. فالرئيس، المولج صون الدستور والدولة والمحافظة على وحدتها واستقلالها، هو نظريا رئيس السلطات ودورها يتجاوز المواقع والمحاصصة. انه، بتعبير آخر، رئيس "سوبرمان" في دولة تستمد سلطتها الفعلية من توافق القوى السياسية التي ينتخبها الشعب. والسؤال من اين يأتي الرئيس بالسلطة التي تخولّه ان يكون رئيس الدولة وحامي وحدتها وسلامة اراضيها وضابط ايقاع هيبتها وشرعية قراراتها. وهنا جوهر الموضوع. الرئيس يستمد سلطته اولا من بيئته السياسية والطائفية، وهي التي تمنحه الثقة والشرعية الشعبية في النظام الديموقراطي الطوائفي. وبما ان الرئيس الماروني هو ايضا رئيس الدولة، الا ان للدولة مكونات تتجاوز الرئيس بصفته التمثيلية، السياسية والطائفية وسواهما.

في مراحل سابقة قبل اندلاع الحرب، كانت الرئاسة الاولى، كما سواها من المراكز القيادية، خاضعة لتحالفات سياسية وانتخابية. فالانتخابات في تلك المرحلة كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا بتكوين السلطة في شقيها التشريعي والتنفيذي، لاسيما الانتخابات النيابية في 1968 والرئاسية في 1970. هذا الرابط انقطع بين العامين 1990 و2005 حيث كانت الانتخابات النيابية منفصلة عن مسار تكوين السلطة. ففي زمن "الترويكا" الدستور كان مغيبا، لا رابط له بالدولة والقرارات الصادرة عن مؤسساتها سوى الرابط الشكلي. ولم تكن نتائج انتخابات 2005، بعد خروج الجيش السوري من لبنان، كافية لاعادة احياء التوازنات الطبيعية، وفي الوسط المسيحي تحديدا، فتم اقصاء العماد عون وما يمثل من اكثرية شعبية حاسمة عن حكومة التحالف بين 8 و 14 آذار، التي جمعت اركان "ترويكا" التسعينات مع canderel بنكهة مسيحية.

اما اليوم فالاوضاع تبدلت، في التركيبة السياسية للمكونات الطائفية وفي التحالفات العابرة للطوائف وفي اوضاع دول الجوار العربي ومجتمعاتها. ففي ظل هذه التحولات الكبرى، ايّ نموذج للدولة ولرئيسها نريد: نموذج "الترويكا" المعطّل للدستور، أم نموذج ما قبل الحرب غير المتاح، ام شراكة متكافئة لحماية الاستقرار والدولة ودستورها؟ فاذا صدقت النيات وجاءت الافعال مطابقة للخطاب السياسي المتداول، هذا الرئيس يجب ان يجسد الشراكة الفعلية لاسيما وان القوى السياسية المسيحية جميعها اليوم تعتبر ان زمن "الباراشوت" الرئاسي قد ولى. فاذا كان المقصود رئاسة مهمتها احترام الدستور وحماية الدولة وأسس جمهورية العيش المشترك الذي يتشارك في صنعه الجميع، فهذا يعني تمثيل مسيحي بسكر طبيعي لا برشة canderel.