ليس مطلوبًا من مجلس الوزراء الانقسام حول مسألة عرسال وجرودها، إذا ساده الصدق وجلّلته الوطنيّة. بل المطلوب منه برئاسة رئيس الحكومة تمّام سلام العبور نحو المراتب العليا في قراءة ما يجري في المنطقة وتداعيات ذلك على لبنان والداخل اللبنانيّ بكلّ أطيافه ومكوّناته والشروع نحو الحسم المطلَق انطلاقاً من عرسال وجرودها.

كثيرون ممّن راقبوا الوضع توقّفوا، وكما بات معلومًا، أمام قول واضح ومثبت لوزير الداخليّة ​نهاد المشنوق​ يقول فيه ما حرفيّته: "عرسال محتلّة من قوى مسلّحة". فالمشنوق لا يطلق العبارات جزافًا إذا لم يكن أكيدًا من أبعادها ومعانيها وحقيقتها، وإذا لم يشأ من خلالها إصابة هدف واضح يعني كلّ اللبنانيين، وهو إن تلك القوى المسلّحة هي في حقيقتها عدوّة للبنان، ولا يمكن استمرار هذا البلد وديمومته بانغراس تلك الدمل السرطانيّة في خلاياه وشرايينه لأنها دمل قاتلة وبالتوصيف الطبيّ الدقيق. ذلك أن كلمة احتلال بالفرنسيّة والإنكليزيّة ترجمتها Occupation، وتكشف الكلمة في فحواها الخطورة الكاملة المهدّدة لعرسال ومحيطها. أن يقول ذلك رجل كنهاد المشنوق، المعبّر عن انتمائه السياسيّ الواضح، فهذا يعني الكثير ليس لفريق سياسيّ واحد بل لجميع الأفرقاء، في ظلّ التوق الشديد للخروج من هذا الأتون الداعشيّ والنصراويّ الملتهب والحارق والذي يشاء أن يقتات من دماء كلّ الناس بلا شبع، وينفجر تباعًا في كلّ المواقع التي يتمدّد فيها بأطر استراتيجيّة واضحة.

لم تعد مسألة عرسال أو جرودها مرتبطة بحاجات سياسيّة خاصّة وضيّقة... وقد استغربت شخصيّة سياسيّة كلامًا سرّب عن وزير العدل اللواء ​أشرف ريفي​، قال فيه "بأننا دخلنا حاملين المدافع فإذ بنا لم نستعملها"، وتساءلت تلك الشخصيّة هل سيستعملها إذا ما طرحت مسألة عرسال للنقاش في مجلس الوزراء، وبخاصّة أنّها بلدة "محتلّة"، وتذهب تلك الشخصيّة بحديثها إلى كلام قاله النائب ​سعد الحريري​ في ذكرى استشهاد والده، رفض فيه كلّ القوى والمنظمات التكفيريّة في المدى السنيّ، ودعا إلى محاربتها... وأكّدت الشخصيّة أن خطاب سعد الحريري دعم عمليّة تطهير طرابلس من تلك القوى، وكان المقدّمة الفعليّة للحوار مع "حزب الله"، لتسأل من جديد، ما هي حقيقة رؤية "تيار المستقبل" على وجه التحديد لهؤلاء، وهل يعيش التيار نفسه أزمة صامتة بين رأي متبنٍّ وآخر لافظ لهم، أو أنّنا أمام لعبة توزيع أدوار مبرمجة؟

وفي تشخيص مبسّط، وعلى الرغم من محاولة استقراء رؤية "تيار المستقبل"، فإنّ مسألة التبدّلات الظاهرة في الخطاب السياسيّ الأزرق، عائدة للصراع في اليمن وحوله. الأطراف السياسيّة اللبنانيّة بجملتها مشدودة إلى اليمن وسوريا بالخيارات المطروحة في الصراع حولهما والمنطلقة من جوفه، وقد اعتبرت بعض المصادر بأنّ الصراع الصامت أدّى إلى المسارعة في حجز تذكرة في القطار السعوديّ من قبل الحريري نفسه، وهو العارف بدقّة الخلاف بينه وبين الأمير عبدالله بن نايف، وهو مدركٌ بأنّ بعضًا من الخيوط الأساسيّة في "تيار المستقبل" محرّكة بالقبضة السعوديّة ومدوزنة باتجاه محاربة "حزب الله" في عرسال والقلمون وغيرها.

وعلى الرغم من هذا الواقع، إنّما الرجال في النصوص والكلمات. تلك قاعدة إذا ما اعتمدت فإنّها تساهم في جلاء الكثير من الغموض والضبابيّة حول عناوين دقيقة، ترتبط بالصراع مع التكفيريين. تستتبع تلك القاعدة قاعدة أخلاقيّة يجب اعتمادها وهي "إنّ بعض الظنّ إثم". لكنّ الإمام الغزالي التقى مع القدّيس توما الأكوينيّ في حلّ معضلة الشكّ، إذا ما نما من العقل وصبا إلى الوضوح. فمن حقّ اللبنانيين الذين قرأوا أو استمعوا إلى سعد الحريري، في ذكرى أبيه، أن يعتمدوا القياس المنطقيّ في استظهار لفظ "تيار المستقبل" والطائفة السنيّة لتلك القوى التكفيرية من بيئتها، إذا ما قرأنا بأنّ سعدًا يمثّل وجدانها بالأكثريّة المطلقة، ويتساءلوا عن أمرين:

1- لماذا "تيّار المستقبل"، إذا رام الصدق، لا يجسّد ما قاله رئيسه سعد الحريري بالعمل على مكافحة التكفيريين، ومحاربتهم بغضّ النّظر عن اتجاهه السياسيّ في لبنان أو سوريا، وعن الموقف من الصراع في اليمن وعليه؟ وفي هذا المعنى تتدحرج الأسئلة في معنى الشكّ حول ما يقال ويعبّر عنه، وحول ما يُضمَر له، فيبدو المضمر غالبًا بالأفعال. فإذا كان المستقبليون صادقين برفضهم لتلك الدمل السرطانيّة، فلماذا لا يكافحونها بالتضافر والتكافل مع الجميع عوضًا من استهلاكها في المفردات اللبنانيّة الضيّقة والغامضة في مآرب سياسيّة محتربة؟

2- لماذا "تيار المستقبل" لا يدعم الجيش وببساطة كاملة، لمكافحة هؤلاء سواء في عرسال أو جرودها أو في أي بقعة من لبنان، بدلاً من إدخاله في متاهات، كمثل القول له، لا يجوز أن نغضب من وهب ​الجيش اللبناني​ّ ثلاثة مليار دولار؟ هل الثلاثة مليار دولار أهمّ من الوطن ووجوده في ظلّ الخطر الوجوديّ الضاغط؟

كلّ ذلك يشي بأنّنا أمام أزمة تكوينيّة ترتبط بجوهر لبنان اي بميثاقه ودوره. والمعضلة لا تختصر بالفراغ الرئاسيّ، وإن كان بدوره جوهريًّا في دور لبنان وسيرورة مؤسساته. بل تظهرها تلك الرؤى الضبابيّة المغلّفة المتغلغلة في كلّ اعتراض والتباس مواكب ومواجه لعناوين الأزمة الكيانيّة، قلا يبدو الفراغ الرئاسيّ هو الأساس، بل هو نتيجة للتراكمات الظاهرة والظليّة، المتسلّلة من اشتداد الصراع في الإقليم الملتهب. وتتجلّى الأزمة الموصوفة بالكيانيّة، من كونها تعبّر سواءً بموضوع عرسال أو اللاجئين أو الفراغ الرئاسيّ، عن الاختلال في الوجود اللبنانيّ برمّته. والطامة الكبرى أنّ الحكومة اللبنانيّة باتت جزءًا من هذا الاختلال، فباتت كلّ العناوين الأساسيّة المتداول بها قنابل موقوتة تهدّد بانفجار الحكومة من الداخل، فتشتدّ وطأة الفراغ وتثقل كاهل اللبنانيين بأمنهم وخبزهم وحياتهم. وعلى هذا تطرح بعض الأوساط المراقبة معادلة بإمكان الجميع الارتكاز عليها في تشريع الحلول وتسويغها.

المعادلة هي التالية: معظم اللبنانيين متوجسون من خطر "داعش" و"جبهة النصرة"، ومعظم الفرقاء يخشون من تمدّدها لكونها لا تميّز بين مسيحي ومسلم، بين سنيّ وشيعيّ ودرزي، فليحقّق الوزراء رجاء اللبنانيين باستتباب الأمن في لبنان انطلاقًا من عرسال وجرودها، وليطلقوا الجيش اللبنانيّ نحو معركة يجدر بطبيعتها أن تكون وطنيّة وأخلاقيّة بكلّ ما للكلمة من معنى. وتنطلق تلك الأوساط من كلام نائب رئيس الحكومة ووزير الدفاع سمير مقبل، حين قال بأن الجيش يملك القدرة على المواجهة ولكنّه يحتاج لقرار سياسيّ لمواجهة التكفيريين... إن تلك الإشارة بحدّ ذاتها خطيرة لأنها تجوّف الجيش اللبنانيّ من مضمونه الذي نما عليه، وتظهر في المقابل أن ثمّة فريقًا سياسيًّا كبيرًا لا يزال يراهن بالمعنى السياسيّ وإرضاءً لواهبي الثلاث مليارات دولار على تلك المنظمات والقوى. وتردّ تلك الأوساط على الجميع، بأنّ تحرير عرسال وجرودها واجب وطنيّ وأخلاقيّ وهو المقدّمة الرصينة للخروج من الخلل إلى التوازن. وإلاّ فإنّ الأزمة اللبنانية الوجوديّة مستمرّة بالفراغ كنتيجة لهذا الصراع، وما العجز في المواجهة سوى التعبير الفصيح عن عقم تلك الأزمة وعبثيّتها، والتي سيكون لـ"حزب الله" في المراحل المقبلة الدور الحاسم في تبديدها على الأرض...