تعكس التطوّرات العسكريّة الميدانيّة الأخيرة في سوريا مساراً واضحاً لا يُمكن التنكّر له أو التخفيف من أهمّيته عبر إدراجه في خانة عمليّات الكرّ والفرّ التي غالباً ما تحدث خلال الحروب الطويلة الأمد. فأغلبيّة المعارك في الأسابيع والأشهر القليلة الماضية لم تصبّ في صالح النظام السوري، ومُتابعة مسار المعارك تُبرِز مواصلة رسم خرائط ميدانية قلّصت سيطرة الرئيس السوري بشّار الأسد إلى نحو 25 % فقط من المساحة الإجماليّة لسوريا، ولوّ أنّ هذه المناطق بالتحديد هي العصب الأساسي للدولة السورية وهي الأكثر كثافة من حيث عدد السكّان. فما هي التوقّعات للمُستقبل القريب، وهل فعلاً يقوم كل من ​الجيش السوري​ و"حزب الله" حالياً بتنفيذ خطّة دفاعية، إستعداداً لأيّام سيّئة مُقبلة؟

بداية، لا بُدّ من التذكير أنّ التغيير الأبرز الذي طرأ على الساحة السياسية المُواكبة للحرب السورية المُستمرّة منذ أكثر من أربعة أعوام، تمثّل في نجاح الرياض بقيادة الملك الجديد سلمان بن عبد العزيز، في تخفيف الفجوات بين السعودية وتركيا من جهة، وبين السعودية وقطر من جهة أخرى، وبين الدول الثلاث في ما بينها أيضاً. وكل الإجتماعات التي عُقدت خلال الأشهر القليلة الماضية ركّزت على ضرورة تفعيل قُدرات الفصائل المعارضة في سوريا، وعلى الحدّ من تقاتلها فيما بينها، وعلى التركيز على ما تعتبره "العدوّ المُشترك" المُتمثّل بالنظام السوري. وترافق هذا التفاهم السياسي مع تسهيل وصول المزيد من المقاتلين إلى الأراضي السورية، ومع تمرير كميّات من الأسلحة النوعيّة، وفي طليعتها الصواريخ المُوجّهة المضادة للدروع. وقد سمح هذا الأمر بقلب موازين القوى في أكثر من جبهة، حيث كان من الممكن ضرب دبابات وآليّات الجيش السوري المُدرّعة من مسافات بعيدة، قبل التقدّم البرّي.

وبعد التطوّرات العسكريّة المُتسارعة في غير صالح الجيش السوري في محافظة إدلب(1)، تتحضّر فصائل ما يُسمّى "جيش الفتح"، لإستكمال إسقاط كامل مُحافظة إدلب، لتُصبح ثاني مُحافظة تسقط بالكامل بيد مُعارضي النظام السوري بعد محافظة الرقّة. وبعد إسقاط مدينة أريحا، آخر المعاقل الأساسيّة للنظام في إدلب، لا يزال الجيش السوري، والقوى المُختلفة المُساندة له، يُسيطرون على بلدتي الفوعة وكفريا ومطار "أبو الظهور" العسكري. وتُخطّط المعارضة السوريّة لتتجه بعد ذلك نحو طريق أريحا-اللاذقيّة، ونحو قرية فرّيكة التي تُشكّل نقطة إلتقاء بين ثلاث محافظات(2). وفي حال التمكّن من إسقاط كامل مُحافظة إدلب فإنّ الخيارات الهجوميّة ستكون كثيرة وفي غير إتجاه، إن نحو حلب أو نحو حماة أو حتى وربما نحو اللاذقيّة وذلك عبر بوّابات الشمال نحو الساحل السوري.

وعلى خطّ مواز، وبعد التطوّرات العسكريّة المُتسارعة في غير صالح الجيش السوري في مدينة تدمر(3)، يتحضّر تنظيم "داعش" الإرهابي الذي صار يُسيطر على مساحة جغرافية تبلغ 95,000 كلم. مربّع من المساحة الإجمالية لسوريا، وينتشر في 9 محافظات سوريّة من أصل 14(4)، لتوسيع سيطرته العسكريّة في أرياف حمص، وصولاً إلى المدينة نفسها، علماً أنّ خياراته الهجوميّة مفتوحة في أكثر من إتجاه، باعتبار أنّ مدينة تدمر بموقعها الوسطي الإستراتيجي تُساعد في زيادة هذه الخيارات.

إلى ذلك، برزت في الماضي القريب سلسلة اللقاءات التي عقدها "القائد العام" لما يُسمّى "جيش الإسلام"، زهران علّوش، مع رئيس جهاز الإستخبارات التركي هاكان فيدان، وتعمّده القيام بعرض عسكري ضخم في "الغوطة الشرقيّة"(5)بالتزامن مع تسريبات إعلامية عن تحضيرات متواصلة لشنّ هجوم على العاصمة دمشق بمجرّد أن تسنح الفرصة لذلك.

وأمام هذا الواقع المُستجدّ والذي حوّل الجيش السوري وكل القوى المُساندة له، إلى الموقع الدفاعي بعد أن كان في موقع هجومي في أكثر من مكان وجبهة، يبدو أنّ كلاً من الجيش السوري و"حزب الله" يُواصلان إستكمال خطّة دفاعيّة وُضعت منذ بداية الحرب في سوريا قبل أكثر من أربعة أيّام، إستباقاً لأيّام سيّئة يُمكن أن تفرضها التطوّرات الميدانية على الأرض. وفي هذا السياق، يتواصل تعزيز الخط الدفاعي الذي يمتد من مناطق سيطرة النظام السوري الساحليّة على البحر الأبيض المتوسّط، حتى طريق دمشق-حمص-حماة-حلب الدَوليّ من حيث العمق، ثم نزولاً حتى درعا والقنيطرة. وبالتالي، معركة القصير وجوسيه التي وقعت في أيار وحزيران من العام 2013 لم تكن صدفة، شأنها في ذلك شأن معركة كل من يبرود ورنكوس في آذار ونيسان من العام 2014، وصولاً إلى معارك الزبداني بالأمس القريب، ومعارك جرود القلمون المتواصلة والتي تدخل معركة جرود عرسال ضمنها. فالنظام السوري مُصرّ على تأمين كامل المنطقة الساحليّة السوريّة، وكامل الحدود المُشتركة مع لبنان، ليُواجه مع "حزب الله" وباقي القوى الحليفة، أيّ هجوم سيتجاوز خطّ الطريق الدولي العمودي الذي يربط العاصمة دمشق مع باقي المدن السوريّة الأساسيّة. ومن المتوقّع أيضاً أن يُبادر الجيش السوري و"حزب الله" إلى شنّ هجمات إستباقيّة في أكثر من جبهة غير القلمون، إنطلاقاً من مبدأ أنّ "أفضل طريقة للدفاع هي الهجوم".

وفي الخلاصة، الأكيد أنّ الحرب في سوريا بلغت مرحلة المعارك الجيوسياسيّة الحاسمة، حيث يمكن للنظام ولحلفائه أن يحسموا معركة المناطق الحدودية الفاصلة بين لبنان وسوريا، ويمكن لفصائل المعارضة أن تحسم معركة إدلب، لكن هذا الأمر لا يُنهي الحرب بل يفرض خرائط الدويلات السورية الناشئة. وبالتالي ما لم يتمّ تجاوز هذه الخطوط الإستراتيجيّة التي رُسمت ميدانياً بعد أربع سنوات من المعارك الطاحنة، لا نهاية قريبة لأفق الصراع الدموي المفتوح في سوريا.

(1)سُقوط كل من مدينتي إدلب و"جسر الشغور" ومُعسكر المسطومة الضخم، بيد ما يُسمّى "جيش الفتح".

(2)المحافظات الثلاث هي: إدلب شمالاً، واللاذقية غرباً، وحماة جنوباً.

(3)سيطر تنظيم "داعش" الإرهابي على مدينة تدمر في ريف حمص، وعلى الجزء الأكبر من البادية السورية وصولاً حتى الحدود العراقيّة، وعلى أغلبيّة حقول النفط والغاز في سوريا.

(4)المحافظات التي يتواجد فيها تنظيم "داعش" الإرهابي، هي: الرقة، حمص، حلب، حماة، الحسكة، دمشق وريفها، دير الزور، السويداء، وجزء صغير من درعا.

(5)شارك في العرض العسكري آلاف المقاتلين بزيّ عسكري مُوحّد مع عشرات الدبّابات والمدرّعات والمصفّحات، إلخ.