لا يزال لبنان غارقاً في مستنقع الأزمة على الصعد كافة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهذه الأزمة التي تفجرت بشكل واسع قبل نحو عشر سنوات ونيف، مع صدور القرار الدولي 1559 الإسرائيلي الصنع، حسب اعتراف وزير الخارجية الإسرائيلي السابق سلفان شالوم، ومن ثم اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، هذه الأزمة بلغت اليوم مرحلة نوعية بات التعايش معها صعباً، خصوصاً مع اقتراب استحقاق التعيينات في بعض المراكز الأمنية والعسكرية الحساسة والخلاف بشأنها، واستمرار الفراغ في سدة الرئاسة الأولى. وتعطل التشريع في مجلس النواب، وربط ذلك من قبل بعض الكتل بانتخاب رئيس للجمهورية. الأمر الذي أدى إلى شبه شلل في مؤسسات الدولة. ويهدد الاستمرار في هذا الوضع بتحلل المؤسسات وانزلاق البلاد إلى مرحلة أكثر سوءا نتيجة اشتداد حدة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والتدهور المستمر في الوضع المعيشي لغالبية المواطنين.

في ظل هذا المناخ المتأزم جاءت مبادرة رئيس تكتل الاصلاح والتغيير العماد ميشال عون للخروج من هذه الأزمة، وكانت بمثابة تحريك قوي للمياه الراكدة، حيث استأثرت باهتمام الجميع وأثارت نقاشا واسعا رافق جولة وفود من تكتل الاصلاح والتغيير على القوى السياسية لعرض المبادرة بخطوطها الرئيسية، وهي، كما جاءت على لسان العماد عون، تتألف من العناوين التالية:

الأول: أن يتم انتخاب رئيس جديد للجمهورية على مرحلتين: المرحلة الأولى مسيحية يترشح فيها من يشاء، والثانية وطنية ينتقل إليها أول مرشحين»، حيث «يجب أن نسأل الناس ماذا يريدون أيضا وأنا أطلب أن نعطي للشعب الحق في الكلام«. عبر استفتاء ومن يحصل على الأكثرية ينتخبه المجلس النيابي رئيساً .

الثاني: أو إجراء الانتخابات النيابية، ومن بعدها انتخابات رئاسية في المجلس الجديد.

الثالث: رفض التمديد في المراكز الأمنية والعسكرية، وقيام الحكومة بمسؤوليتها بتعيين المسؤولين في المناصب الأولى وفق القواعد المنصوص عليها في هذه المؤسسات والتي تستند على الاقدمية والكفاءة والجدارة.

ومع أن المبادرة حظيت بالاهتمام، وهناك دعوات لدراستها والتعامل معها بجدية، إلا أن الانطباع السائد هو أن قوى 14 آذار لا توافق عون على أي من اقتراحاته، فهي لا تريد انتخاب رئيس للجمهورية يحظى بتأييد الغالبية المسيحية ومن ثم الغالبية الوطنية، لأن ذلك سيقود إلى انتخاب العماد عون كونه حسب كل الإحصائيات هو من يتمتع بالتأييد الأكبر في الشارع المسيحي وعلى المستوى الوطني, وأن تيار المستقبل حتى ولو كان مستعداً لقبول ذلك مقابل أن يأتي النائب سعد الحريري رئيسا للحكومة، إلا أنه غير قادر على تنفيذ ذلك بسبب وجود فيتو خارجي أو على الأقل عدم توافر الظروف الدولية والإقليمية التي تدعم مثل هذا الخيار.

أما إجراء انتخابات نيابية يعقبها قيام مجلس النواب الجديد بانتخاب رئيس الجمهورية فانه أيضا يواجه بالرفض من قبل قوى 14 آذار لعدم تأكدها من أنها ستحصل على الأغلبية النيابية وبالتالي وجود احتمال قوي بان يفوز العماد عون وحلفاؤه من قوى الثامن من آذار بالأغلبية وانتخابه رئيسا للجمهورية إلى جانب الاستحواذ على تشكيل الحكومة الجديدة. وهو ما يعني خسارة مزدوجة للمستقبل وحلفائه.

وفي موضوع التعيينات تسعى قوى 14 آذار إلى مقايضة عون بالموافقة على تعيين مرشحه لقيادة الجيش العميد شامل روكز مقابل تخلي عون عن الترشح لرئاسة الجمهورية، وهو الأمر الذي رفض من قبل عون الذي أصر على تطبيق القوانين في مسألة التعيينات، ورفض أن يأتي رئيس الجمهورية ضعيف التمثيل، كما حصل في بعض المرات السابقة، تتحكم بمواقفه وقراراته القوى السياسية التي لا تعبر عن ارداة المسيحيين ولا عن الإرادة الوطنية، الأمر الذي يشكل خللا في تطبيق الدستور الذي يقوم على اختيار الأقوى تمثيلا للرئاسات الثلاث: الجمهورية، والمجلس النيابي، والحكومة، وفي هذا الإطار فان طرح عون له مبرراته القوية التي يصعب على خصومه السياسيين دحضها ، وهذه المبررات تنطلق من أن الغالبية الشيعية هي من يقرر من يكون رئيس المجلس النيابي، وكذلك الغالبية السنية تختار رئيس الحكومة، ولهذا فان عون يطالب بتطبيق القاعدة نفسها بالنسبة لانتخاب رئيس الجمهورية بان يحظى بتأييد غالبية المسيحيين.

أمام هذا الواقع يبدو أن العماد عون قرر هذه المرة أن يدق جرس الإنذار معلنا انه لن يقبل باستمرار القفز فوق الدستور واستمرار حالة الغبن، وأنه لن يقبل بأي تمديد لأي من المراكز في الدولة، وهو ما يجعل الأمر مختلفاً هذه المرة ويضع الأزمة أمام مفترق والاختيار بين واحد من أمرين:

أولاً: أن يتم الموافقة على واحد من اقتراحات العماد عون للخروج من دوامة الأزمة المتفاقمة والتي تدفع بالبلاد نحو مزيد من التأزم.

ثانياً: أو يجري رفض جميع الاقتراحات ويندفع عون نحو التصعيد في الشارع ،وفي الحكومة، لأنه لا يمكن أن يمرر التمديد في المراكز الأمنية والعسكرية، أو القبول بانتخاب رئيس للجمهورية لا يحظى بالتمثيل الشعبي القوي، وهذا الخيار قد يقود إلى استقالة الحكومة واتجاه البلاد نحو الشلل الذي لا يمكن الخروج منه إلا بمؤتمر تأسيسي جديد.

ولهذا فان الاعتقاد السائد لدى بعض القوى السياسية والمحللين هو أن لبنان لن يخرج من هذه الأزمة من دون إجراء اصلاحات جذرية، تماما كما كان الخروج من أزمة عام 1958 بالاصلاحات الشهابية، والخروج من أزمة عام 1975 ومن الحرب الأهلية التي استمرت 15 سنة باصلاحات في النظام السياسي عبر عنها اتفاق الطائف.

وأي اصلاحات تخرج لبنان من الأزمة ستكون مرهونة بالتوصل إلى قانون جديد للانتخابات على قاعدة النسبية باعتبار ذلك هو السبيل لكسر احتكار التمثيل وانتخاب مجلس نواب أكثر تمثيلا للإرادة الشعبية، وبالتالي إعادة تشكيل السلطة السياسية بما يحقق تطلعات اللبنانيين بإلغاء الطائفية وبناء دولة المواطنة وتحقيق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.