يتسَاءل الكثيرون كيف يُمكن لهذه العقول الإرهابيّة الرهيبة والإجراميّة العنيفة على شاكلة تنظيم "داعش" و"أخواته" أن تلقى آلاف المُؤيّدين في مختلف أصقاع العالم، وأن تتغذّى بهذا الكمّ من الدعم المالي. فما هي أسباب نشوء "الدَوَاعش" على إختلاف أنواعها، وهل سيتمّ فعلاً سَحقها قريباً أم أنّ عمليّاتها الإرهابيّة ستتواصل وسنشهد تصعيداً للهجمات الإرهابيّة التي ضربت أخيراً في كلّ من الكويت وتونس وفرنسا وغيرها؟

بحسب الأغلبيّة الساحقة من الخبراء الغربيّين المُتخصّصين بشؤون التنظيمات الإرهابيّة الدَوليّة، إنّ حجّة البيئة الفقيرة التي تسهّل عمليّات التجنيد لصالح هذه التنظيمات، وكذلك حُجّة الإغراءات الجنسيّة التي تدفع الكثير من الشُبّان إلى أحضان هذه الجماعات الإرهابيّة المُتشدّدة، هي حُجج صحيحة وتُساعد كثيراً في تجنيد "الإرهابيّين"، لكنّ الدافع الأكبر يبقى في برمجة العقول عبر الحديث المُتواصل عن إضطهاد ديني ومذهبي وسياسي وأمني، إلخ. خلال خطابات دينيّة هنا وعبر مواقع "الإنترنت" هناك وخلال "غسل الدماغ المُباشر" من شخص إلى شخص هنالك. ومن يُديرون التنظيمات الإرهابيّة، من المسؤولين المَيدانيّين بمَهمّات مُتوسّطة وصُولاً إلى أعلى الهرم، ليسوا أمّيين على الإطلاق، وبعضهم يحمل شهادات عالية، الأمر الذي يُسهّل عليهم جذب وتجنيد مؤيّدين بخلفيّات علميّة من كل المُستويّات، من خلال اللعب على الوتر الطائفي والمذهبي بشكل خاص، ومن خلال عمليّات "غسل الدماغ" المُبرمجة التي يُمكنها أن تُحوّل زميلاً في العمل أو شريكاً في الوطن إلى "عدوّ" يستحقّ الموت، فكيف بالحري المُواطنين من خارج الحدود؟! وطالما يُوجد أنظمة مُستبدّة، وحكّام دمويّين وقمعيّين، ودول بفكر توسّعي، إن لجهة السعي لنشر أفكارها السياسيّة، أو لجهة السعي لتحصين مصالحها الأمنيّة والإقتصادية، أو لجهة السعي لنشر عقائدها ومذاهبها، إلخ. فإنّ الدعوات لمواجهة هذ المساعي ستبقى موجودة.

وإنطلاقاً ممّا سبق، إنّ نجاح تنظيم "داعش" الإرهابي و"أخواته" من التنظيمات التي تحمل كلّها أسماء بخلفيّات دينيّة إسلاميّة(1)بهدف تأمين الغطاء الديني المزعوم لعملها، في الإستمرار في تجنيد الأنصار الجُدد، مَضمون. وفي العقدين الأخيرين، ساهم التطوّر الكبير الذي طرأ على عالم التواصل الرقمي و"الإنترنت" ومُختلف وسائل التواصل عن بُعد، في الوصول إلى شرائح مُجتمعيّة جديدة كان من الصعب بالأمس القريب تجنيدها، ودائماً تحت راية "الجهاد" المزعومة. وفي عالم يزيد فيه المُسلمون على مليار ونصف مليار نسمة، من السهل جداً تجنيد عشرات الألوف من الشُبّان وتوزيعهم في مختلف أنحاء العالم، مع تركيز على البُلدان أو المناطق الخارجة على سلطة الدولة والقانون، مثل أجزاء كبيرة من العراق وسوريا وليبيا، ومثل أجزاء من السودان والصومال ومصر ونيجيريا وباكستان وأفغانستان، إلخ. وبالتالي، طالما أنّ عمليّات التجنيد مفتوحة، وطالما أنّ المساحات الجغرافية القادرة على حضن هؤلاء وتدريبهم مُتوفّرة، فإنّه كلّما توفّر المال لتمويل العمليّات الإرهابيّة، كلّما سنشهد المزيد من عمليّات القتل والتفجير.

وبالنسبة إلى الدوافع التي تحضّ الشُبّان المُجنّدين على القتل فهي موجودة بشكل دائم، ومنها التحريض على تحرير أرض من إحتلال هنا، وعلى إقتلاع ديكتاتور مُستبدّ هناك، وعلى تغيير نظام "عميل" هنالك. ومن بين الدوافع المُستحدثة والتي إنتشرت مع تنظيم "داعش" بشكل خاص، الحضّ على إقامة "حُكم الإسلام" وإقامة "الإمارات الإسلاميّة"، وضرب كل من يُعتبرون "مُشركين" أو "روافض" أو "خوارج" إلى ما هناك من تعابير تعكس الفكر المُغلق والرجعي للتنظيمات الإرهابيّة تحت ستار الإسلام.

في الخلاصة، وبما أنّنا لن نشهد قريباً أفولاً للتنظيمات الإرهابيّة، من الضروري الإشارة إلى أنّ القضاء على "داعش" وعلى كل التنظيمات الإسلاميّة لا يتمّ بمُهاجمة بلد هنا، ولا بضرب منظّمة هناك، ولا بسحق جماعة مُسلّحة هنالك. وخير دليل على ذلك، ما حصل مع تنظيم "القاعدة" الذي تعرّض لحرب ضارية إشتركت فيها عشرات الدول على مدى أكثر من عشر سنوات، ما أدى إلى تضعضعه لفترة من الزمن، قبل أن نشهد إنتشاراً لعشرات التنظيمات الإرهابيّة التي خرجت من رحمه أو تأثّرت بأفكاره في مختلف أنحاء العالم! والقضاء على التنظيمات الإرهابيّة لا يُمكن أن يتمّ من دول أو من طوائف أو من مذاهب من خارج النسيج الذي تتشكّل منه هذه التنظيمات، لأنّ أيّ خطوة في هذا السياق، تُعطي دافعاً للتحريض على المواجهة ولتجنيد المزيد من المُضَلّلين إلى جانب التنظيمات المَعنيّة والمُصنّفة إرهابيّة.

يبقى أخيراً ما يستحقّ الإشارة إليه ويتمثّل بمطالبة العديد من الدول والجهات ورجال السياسة والإعلام بضرورة القضاء على تنظيم "داعش" الإرهابي و"أخواته"، وهو مطلب حقّ ويجب تأييده من دون أيّ تردّد. ولكن للتذكير فقط فإنّ الكثير مّمن يُنَظّرون اليوم بضرورة سحق "داعش" و"أخواته"، كانوا بالأمس القريب يصمُتون صَمت القبور عن إرهاب تنظيم "القاعدة" في العالم، ويفرحون ويهلّلون لمهاجمة المدنيّين في أميركا أو فرنسا أو بريطانيا أو ألمانيا، إلخ، علماً أنّ الإرهاب هو إرهاب في أيّ مكان وضدّ أي كان! وأكثر من ذلك هم حزنوا ورموا الورود في البحر عندما جرى قتل الرأس الإرهابي أسامة بن لادن، مُحاولين تبرير أفعاله الإجرامية بأنّها ردّ على الظلم وسعياً وراء الحرّية وتعبيراً عن قهر وما شابه من حُجج، وللمفارقة أنّ هذه الُحجج هي نفسها التي يُطلقها اليوم مُؤيّدو تنظيم "داعش" الإرهابي و"أخواته" لتبرير إجرامهم! ولعلّ أهمّ ما قيل من مؤيّدي تنظيم "القاعدة" بالأمس والداعين إلى سحق "داعش" اليوم، هو "أنّ القتل إنّما يَستَولد القتل". وهذا ما يحصل تماماً حالياً...

(1)ومنها على سبيل المثال لا الحصر: "أنصار الشريعة" في ليبيا، "أنصار بيت المقدس" في مصر وخصوصاً في سيناء، "جنود الخلافة" في الجزائر، "أنصار الشريعة" في تونس، و"أنصار الدين" في إفريقيا وخصوصاً في مالي، "حركة الشباب المُجاهدين" في الصومال، تنظيم "القاعدة" (بمختلف فروعه)، "بوكو حرام" في نيجيريا، إلخ.