انها المرة الأولى في لبنان التي يمكن الحديث فيها عن انّ متغيّراً ما يلوح في الأفق السياسي والدستوري في البلاد، فلبنان الذي اعتاد على حلول توافقية للأزمات والتعقيدات التي يتوقف عندها الأفرقاء فتتعطل عدة مرافق ومؤسسات في الدولة، يفتقد اليوم إلى أيّ من المبادرات الهادفة الى حلّ أزماته، وتحديداً إنهاء الشغور في رئاسة الجمهورية والتعيينات الإدارية وغيرها، ولكن للمفارقة انّ كلّ هذا المشهد والجمود السياسي يجري بدون نزاعات دراماتيكية وسجالات تعبوية على كافة الأصعدة والاعتبارات حتى الساعة.

لطالما تقبّل اللبنانيون الحلول التوافقية وتلقفوها من الخارج الذي كان يريد إثبات حصته في فرض وجهة نظره ونفوذه في لبنان، ولطالما انتظر هذه الحلول او سعى نحوها وغالباً ما كانت حلولاً وسط تضفي نوعاً من التوازن في المشهد، لكن من دون ان تصبغ لبنان حكومياً او رئاسياً بصبغة الطرف الفاقع اذا صحّ التعبير، فجيء بالرئيس الوسطي نجيب ميقاتي رئيساً للوزراء في السنوات الماضية، ثم الرئيس الحالي تمام سلام رئيساً للحكومة، وكان قد سبقهما في سدة رئاسة الجمهورية الرئيس التوافقي ميشال سليمان الذي أتى بعد مؤتمر جمع اللبنانيين المتناحرين في الشارع للتوافق على حلّ للمعضلة الرئاسية، وكان الفراغ قد استمرّ لمدة ستة أشهر قبل أحداث 5 و 7 أيار، وقبل أن توقّع قطر أكبر إنجازاتها وتفتتح «عصر» تدخلها في لبنان من الباب العريض.

على مستوى رئاسة الجمهورية أحد أبرز المرشحين في الأروقة السياسية اللبنانية او بالأحرى أحد أبرز الأسماء المطروحة للحلّ المقبول من الأغلبية هو الوزير السابق جان عبيد الذي تشير مصادر «البناء» إلى أنه أول الأسماء المطروحة من قبل الرئيس سعد الحريري منذ ما يقارب السنة، والمتفق عليها بينه وبين الرئيس بري، وانّ طرح اسمه في الكواليس لم يأت من فراغ او تكهنات، انما من فرصة حقيقية كانت قد توفرت له في هذا الاطار، الا انه حتى الساعة لم يوفق في الوصول إليها.

الوزير السابق جان عبيد الذي بدا متحفظاً نسبياً عن الإدلاء بالتصريحات الإعلامية طيلة الفترة السابقة حفاظاً على نسبة معينة من السرية ربما تبقي حظوظه في الفوز أكبر، يصرح اليوم انه «غير معني بالترشيحات والترجيحات والاستطلاعات المتصلة بالمعركة الرئاسية ويقول إنه لم يعلن ترشيحه حتى الآن لرئاسة الجمهورية لغياب فرصة لمرشح مستقلّ وتوفيقي مثله وبسبب حدّة التنافس والصراع في البلاد بين الأطراف المختلفة.

اذاً… يدرك عبيد المرشح المفترض الأوفر حظاً بالرئاسة كمرشح توافقي او توفيقي كما يُقال انّ الحظوظ شبه معدومة، ما يعني انّ ما ينطبق على عبيد ينطبق على العماد جان قهوجي أيضاً كمرشح توافقي، وينطبق بالتأكيد على المرشح هنري حلو الذي سمّاه النائب وليد جنبلاط لغايات وأهداف محدّدة حينها وهوالأقلّ حظاً بطبيعة الحال.

انعدام التوافق في لبنان على تسمية مرشح رئاسي لا يتوقف عند هذا الحدّ بل يتعداه الى انعدام الاتفاق على تعيين قائد للجيش وفاقي ايضاً مع الفوارق الواضحة في الحالتين، وبالتالي فإنّ التوافق المعدوم في لبنان اليوم ليس سوى حالة من أصل مشهد برمّته مقبل على الساحة اللبنانية وهو تأكيد واضح على انّ الحفاظ على الحكومة اللبنانية هذه المرة هو مسؤولية جميع الأفرقاء لأن لبنان سيدخل هذه المرة في نفق دستوري مجهول تماماً، والسبب هو كون لبنان واحد من ابرز الدول الاقليمية المعنية بما يجري في سورية خصوصاً أنّ حزب الله الذي يقاتل وينتصر فيها ويعرف جيداً انّ ايّ انتصار كهذا سيصرف في الداخل اللبناني رصيداً يعود على حلفائه بالفائدة بشكل طبيعي، واذا كان حزب الله يطرح جدياً اسم العماد عون كمرشحه ومرشح 8 آذار بطبيعة الحال بثقة اللاعب الإقليمي البارز القادر على تقرير مصير حلفائه في لبنان ضمن معادلة طغيان المشهد الاقليمي على الداخل اللبناني كتحصيل حاصل. فإنّ خصومه في 14 آذار الغير قادرين على طرح تسويق مرشح جدّي للمنافسة يسعون الى تأخير الاستحقاقات وتأجيلها علها تسهم في خسارة حزب الله لبعض أوراقه الإقليمية التي ستفرض عليهم بحسب مفهومهم بشكل فوري عند ايّ تسوية ينتصر فيها حلفاء حزب الله، فيؤخذ نحو التوافق والتنازل عن تمسكه بالعماد عون، وتتعادل النقاط وينتخب رئيس توافقي للبلاد على غرار ميشال سليمان.

هذا ما لن يحصل بالنسبة إلى منطق حزب الله في مقاربة الأمور والأوضاع، فهذه المرة التي لا تشبه سابقاتها، ويعتبر حزب الله لبنان واللبنانيين ضحية تسوية سابقة برلمانية ورئاسية كلفته وكلفت اللبنانيين لاحقاً شهداء وتضحيات كبيرة نظراً إلى التراخي في حسم موضوع الإرهاب والتصدّي للمخاطر المقبلة على المنطقة، وحزب الله القادر على طرح فكرة مرشح توافقي يؤكد بتمسكه بالعماد عون انّ لبنان وللمرة الاولى أمام انتخاب رئيس طرف يفرض أوراقه وتوجهاته بحكم الفائز والخارج من مخاض التضحيات، والذي يبدو أن حزب الله لن يقبل بالمساومة عليها او التفريط بها هذه المرة.

لا توافق في لبنان على كافة الأصعدة، ولبنان الذي يراقب حركة عقارب الساعة ويعد بدء تمظهر الحلول السياسية بالمنطقة على موعد ثابت مع الفراغ، لكن هذه المرة من دون أيّ أمل بانتظار مبادرات توافقية روسية او فرنسية او سعودية، انما ينتظر رجوح كفة محاور برمّتها تصوغ المشهد السياسي الجديد فيه بغالب ومغلوب.