في زمن الفراغ الرئاسي الذي يتمدّد أكثر فأكثر يومًا بعد آخر، لا تزال القوى السياسية ولا سيما المسيحية منها، تبحث عن "إبرة في كومة قش"، لعلّها تحمل معها "كلمة السرّ" التي يمكنها أن تنقذ الاستحقاق الرئاسي من المجهول الذي أدخل نفسه به.

جديد "الأفكار الخلاقة" التي "تبتكرها" هذه القوى تجسّد في "الاستطلاع المسيحي" الذي تشير المُعطيات إلى أنّه يُطبَخ على نارٍ حاميةٍ، بوصفه "ثمرة" التقارب غير المسبوق بين "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية"، ولكنّه استطلاعٌ لا يبدو أنه أخِذ على "محمل الجد" لدى حلفاء الجانبَين على حدّ سواء..

دلالاتٌ بالجملة..

يُعتبَر استطلاع الرئاسة، الذي تُنسَج الكثير من الروايات والأقاويل حوله هذه الأيام، واحداً من الطروحات التي تقدّم بها رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون، في سياق مبادرته الشهيرة التي أطلقها قبل فترة. وعلى الرغم من أنّ الكثيرين قلّلوا يومها من شأن الفكرة، واعتبروها مجرّد "مناورة" تصبّ في سياق مساعي "الجنرال" للوصول إلى الرئاسة بأيّ ثمن وأيّ طريقة، فإنّ الأخير استفاد من تقاربه مع رئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​، ليقنعه بالمضيّ معه في المقترح، وهو ما حصل.

ومع أنّ أحداً من "حلفاء" الرجلين لم يتبنّ صراحةً الاقتراح ولم يُبدِ له الحماس الشديد، فإنّ الفكرة سلكت طريقها التنفيذي، حيث تفيد المعلومات أنّ الحديث تجاوز تحديد الشركة التي ستنفذ الاستطلاع، وصولاً إلى البحث في الآلية العملية التي ستُعتمَد في تنفيذه للوصول إلى النتائج المرجوّة، مع تأكيد كلّ من "الوطني الحر" و"القوات اللبنانية" على أنّ نتائج الاستطلاع، وإن لم تكن مؤثرة من الناحية القانونية أو الدستورية، فإنّها ستحمل من دون شكّ الكثير من الدلالات التي لا يمكن إلا البناء عليها.

مضيعة وقت؟

اللافت وسط ذلك أنّ السهام بدأت تصوَّب على الاستطلاع حتى قبل نضوجه بصورته النهائية، خصوصًا في داخل قوى الرابع عشر من آذار، والتي خرج أركانها ليهاجموه جهاراً، بدءاً من رئيس حزب "الكتائب" ​أمين الجميل​ الذي وجد فيه "تمييعاً وتضييعاً للوقت"، وصولاً إلى "تيار المستقبل" الذي خرجت كتلته لتصفه بـ"البدعة" لا أكثر ولا أقلّ، ليتلاقى الجانبان في اعتباره غير دستوري وغير قانوني بأيّ شكلٍ من الأشكال.

إلا أنّ هذه الاعتراضات تبدو مستغرَبة، برأي مصادر محسوبة على "التيار الوطني الحر"، خصوصًا أنّ أحداً لم يقل أنّ هذا الاستطلاع هو بديلٌ بأيّ شكلٍ عن الانتخابات الرئاسية، أو أنّ نتيجته ستُعتمَد بشكلٍ رسمي خلافًا لما يقوله الدستور. كلّ ما في الأمر، تقول المصادر، أنه مجرّد استطلاعٌ لرأي الشارع، وهو الذي حرمه السياسيون من لعب أيّ دورٍ، بعدما صادروا كلّ حقوقه وصلاحياته، وخصوصًا عندما مدّد النواب لأنفسهم من دون الرجوع للشعب، صاحب الوكالة، مشرّعين لأنفسهم ما يشاءون من دون حسيبٍ أو رقيب.

مخاوف مشروعة؟

أكثر من ذلك، تقول المصادر أنّ هذا الاستطلاع هو "جسّ نبضٍ" لهذا الشارع، وقد يكون في هذه النقطة بالتحديد ما أخاف بعض القوى السياسية فأخرجها عن طورها، خشية "إحراجٍ" قد تتعرّض له في مكانٍ ما، حين تتنكّر لأصحاب التمثيل الأقوى في الساحة المسيحية، وبالتالي فإنّه لن يكون بإمكان هؤلاء "تجاهل" نتيجة هذا الاستطلاع ولو لم يكن رسمياً، لأنه سيحدّد اتجاهات الشارع الحقيقية، والتي يدّعي معظم الأفرقاء تمثيلها بشكلٍ أو بآخر.

ولعلّ ما يعزّز هذه الرؤية هو ذلك الموقف "الفاقع" الذي صدر عن رئيس الجمهورية السابق العماد ​ميشال سليمان​، الذي وصل به الأمر لحدّ اعتبار الاستطلاع مجرّد "لعبٍ". ومن هذه المقاربة، تنطلق المصادر لترى في الموضوع "إنّ" قد تكون عبارة عن خشية من أن يُظهِر هذا الاستطلاع الحجم الحقيقي للأخير، وهو الذي لا يزال يبحث عن دور ويحاول إقناع نفسه أنّه يمتلك وزناً يخوّله ذلك، في حين أنه يدرك أنّه قد لا يعثر على اسمه وقد ورد بتاتاً في مثل هذا الاستطلاع.

تحفّظاتٌ ولكن...

ولكنّ "الاعتراض" على الاستفتاء لم يقتصر على حلفاء جعجع عمليًا، بل إنّه شمل حلفاء عون، وإن بشكلٍ أقلّ حدّة. هكذا، رأى الكثيرون أنّ صمت رئيس المجلس النيابي نبيه بري على سبيل المثال كان معبّراً، حيث أنّ الرجل الذي يكاد يتحوّل إلى "معارضٍ شرِس" لـ"التيار" في هذه المرحلة ليس راضياً عمّا يحصل، وهو سبق له أن وجّه انتقادًا ضمنيًا لـ"التيار" الذي لا يترجم حرصه على الموقع المسيحي الأول بالمشاركة بجلسة الانتخاب، كما أنّ ما يتخطّى الهمس بدأ يتردّد عن نيته طرح أحد المرشحين على الطاولة في الوقت المناسب من خارج صفّ "زعماء الطائفة". ويذهب آخرون للقول أنّ رئيس "تيار المردة" النائب ​سليمان فرنجية​ الذي أعلن موافقته على الاستطلاع فعل ذلك "مُكرَهاً لا بطلا" و"على مضض"، بدليل أنه قال أنّه لن ينتخب خصمه أياً كانت نتيجته، متقاطعاً بذلك بطريقةٍ غير مباشرة مع الطرح القائل بـ"تضييع الوقت".

ولكنّ مصادر "التيار" تقلّل من شأن ما يُحكى هنا وهناك. هي تلفت إلى أنّ أحدًا لم يفرض شيئاً على أحد، وأنّ كلاً من بري وفرنجية وغيرهما يتمتعان بالاستقلالية ليعبّرا عن رأيهما بكلّ صراحة وجرأة. أكثر من ذلك، هي تشير إلى "تحفّظاتٍ مشروعة" طرحها فرنجية، تتعلق بهوية الشركة التي ستنفذ الاستطلاع وشفافيتها ومدى قدرتها على التوازن وعدم الانحياز، مقترحاً الركون إلى أكثر من شركة للمزيد من المصداقية، وهي تحفّظاتٌ تصفها المصادر بـ"البنّاءة" لا "الهدّامة" كغيرها.

خطوة حضارية...

عمومًا، تستغرب المصادر هذه "الطنّة والرنّة" التي أُثيرت حول استطلاعٍ، هو في الأساس "قمّة الديمقراطية"، ويُعتمَد عادة بالتزامن مع كلّ الاستحقاقات في الديمقراطيات الكبرى حول العالم، والتي يتغنّى بها الجميع، وبالتالي فإنّه خطوة حضارية وليس لا بدعة ولا مضيعة وقت، كما يوحي البعض، كما أنه لا يمسّ الدستور الذي يبقى "مقدّساً" برأي كثيرين.

وإذا كان صحيحاً أنه قد لا يترك تأثيراً عمليًا، وأنّ أحدًا لن يُحرَج ويغيّر تموضعه أياً كانت النتائج، يبقى السؤال الأكبر الذي تطرحه هذه المصادر: ما الضير منه إذاً؟ ولماذا تحويله إلى فزّاعة من قبل البعض؟